الشاعر البعثي علوان يتابع المسيرة

2020.06.26 | 00:00 دمشق

5f37c295-b67c-4351-bd24-9cb45c0c5b7f.jpeg
+A
حجم الخط
-A

عندما كان يظهر شاعرٌ في قبيلة عربية قديمة، يجتمع أهالي القبيلة بالقرب من مضارب شيخهم، ويقرعون الطبول، ويرقصون، ويتبادلون التهاني؛ لأن هذا الشاعر لا بد أن يلعب دوراً مهماً في الدفاع عن قبيلته، ومديح شيخها، وهجاء خصومها.

في عصرنا الحديث، تكاثر الشعراء على نحو هستيري، حتى إن الشاعر "علي الجندي" روى، على سبيل النكتة، أنك إذا كنت في بلدة "السَلَمية"، ورأيت رجلين ماشيين في الشارع، فاعلم أن بينهما شاعرين اثنين، وربما ثلاثة!

ولكن، من بين مئات الشعراء المعاصرين، كنت تعثر على شاعر واحد مختص بمديح حافظ الأسد، وهذا يعني أن الشعراء المداحين في عصرنا، كما في أيام الجاهلية، يتمتعون بالندرة، والناس يعاملونهم بالازدراء والنبذ، ولكن، في الوقت نفسه، تحتفي بهم الأوساط البعثية والمخابراتية.

هذا ما حصل مع الشاعر الرفيق علوان الذي أتينا على ذكره في الحديث السابق، ورأينا كيف قرع بابَه الرفيق أبو كفاح أمين شعبة الحزب في منطقته، وطلب منه المشاركة في مهرجان خطابي بذكرى تأسيس حزب البعث، فوافق علوان بحماسة، موقناً أنه، الآن، سيضع قدمه في نقطة الانطلاق الصحيحة بالنسبة لمستقبله. وأما سمارة، زوجة علوان، فقد اعتبرت زيارة أبي كفاح مشؤومة، وارتفعت حدة المناقرات بينهما على إثرها.

علوان استغرق، بعد تلك الزيارة، في حضور المهرجانات الخطابية، وإلقاء شعر المديح والفخر والحماسة، وعاد لا يفتح مقرراته الجامعية، وغاب عن امتحانات الفصل الجامعي الأول، والثاني، ورسب طبعاً، وصار يتعامل مع الجامعة على أنها جزء من ماض لا أهمية له. 

في أواسط شهر تشرين الثاني؛ كانت سمارة مسترسلة في تقريع علوان، قائلة له إن الصرمحة والخضخضة واللطلطة طوال النهار بين طلائع البعث وشبيبة الثورة واتحاد الطلبة واتحاد الفلاحين والاتحاد النسائي، وإلقاء الخطابات والأشعار والمدائح على المنابر لا تطعم خبزاً، ولا يأتي من ورائها غير الشرشحة والبهدلة.. ولكن علوان بقي هادئاً، رابط الجأش، حتى سكتت، فقال لها: طيب حبيبتي. خلص، فهمنا.

قالت سمارة: لا تقلي (طيب وخلص وفهمنا) وتاخدني على قد عقلي. بتعرف شو عم يقولوا عنك الناس في البلد؟ عم يقولوا علوان "لألوء"! اتروك حكي الناس على طرف، ملاحظ إنك ضيعت سنة من عمرك، وهلق صرنا بسنة جديدة وما عم تفتح الكتب؟ طيب ليش؟ مو حرام عليك تترك الجامعة وإنته في السنة التالتة؟ ولك يا علوان وصلت اللقمة للتم، بكره إذا بتتخرج بيتعدل وضعك وبيزيد راتبك.

قال علوان: اتركيني هلق من الجامعة وتعديل الوضع وقولي لي، عندك استعداد تحضري معي احتفال فرع الحزب بذكرى الحركة التصحيحية يوم التلاتا الجاية؟ حبيبتي سمارة، أنا بدي اياكي تحضري معي احتفال واحد بس، لحتى تشوفيني بعينك، وتعرفي وين أنا حاطط رجليي، ولوين بدي أوصل في المستقبل.

بعد عودتهما من صالة المركز الثقافي التي أقيم فيها الاحتفال، لم تقل سمارة شيئاً، بل سارعت إلى فتح علبة الهدية التي قدمها أمين الفرع لعلوان. وعندما وجدت فيها ساعة حائط خلفيتُها عبارة عن صورة لحافظ الأسد ضمن شعار حزب البعث، استنفرت، ودفعت الساعة بيدها، وقالت له:

- بدك الصراحة حبيبي؟ هدول البعثيين عم يضحكوا عليك! عاملينك متل منديل الزفر، كلما اتصل فيهم حدا من فوق، وقال لهم اعملوا لنا شوية هيصة وزنبريطة، بيتصلوا فيك، وبيجيبوك، وبيطالعوك ع المنصة، وإنته بتنتر القصائد تبعك مع شوية قصائد للجواهري وما بعرف مين، وبتبلش بإلقاء الشعر اللي تلات أرباعه كذب وتمسيح جوخ.. وبعدما يصير عَرَقَكْ مَرَقَكْ، وتنفتق من كتر الصياح، بيعطوك ساعة حائط حقها مية وخمسين ليرة، والله وحده بيعرف هني قديش بيلهطوا من ورا هالاحتفالات والخطابات. بتحسن تقلي الاحتفال اللي حضرناه اليوم لولاك شو كان بيسوى؟

عند هذا الحد توقف علوان عن الأخذ والرد. سمارة، من الآخر، امرأة عنيدة، لا تحب المغامرة، ولا تصغي لصوت العقل والمنطق. لذلك حمل ساعة الحائط، علقها في غرفة الجلوس، وذهب إلى النوم.

تعرفَ علوان خلال نشاطاته الشعرية الخطابية على معظم المسؤولين البعثيين والأمنيين في المحافظة التي يتبع لها، ونشأت بينه وبينهم صداقة وطيدة. ولكن من نال إعجابه بشكل خاص "الحجي صفوان" تاجر الأدوية المهربة. رجل فهيم، مثقف، يجيد التعامل مع الجميع بديناميكية بارعة، وهو رجل كريم بشكل استثنائي، لذا كانت له، ضمن مجموعة المسؤولين المحليين، أهمية خاصة.

علوان، بينه وبين نفسه كان يطلق على الحجي صفوان لقب: "اللولب".

بعد انتهاء وقائع المهرجان الخطابي الذي نظمته رابطة الفلاحين بذكرى الحركة التصحيحية، وأثناء خروج الجميع من القاعة، همس اللولب لعلوان قائلاً:

- أستاذ، أنا عازمك الليلة ع العشا. منلتقي بعد ساعة في "مطعم السأسأة". لا تقول قدام حدا. خلينا نكون لحالنا أحسن. 

في "مطعم السأسأة"، عرض الحجي صفوان (اللولب) على علوان تناول كأس عرق برفقته، فاعتذر. قال اللولب إن اعتذاره مقبول، ولكن الطريق الذي اختاره وبدأ يسير عليه بذكاء منقطع النظير يتطلب منه أن يشرب، ولا داعي أن يلجأ إلى شرب "البيرة" من باب المجاملة؛ لأنها تُفْهَم على أنها تديّن متجذر، ونفاق، والأفضل له، في كل الأحوال، أن يأخذ كأساً من الويسكي أو الفودكا أو النبيذ، وأن يوحي لمُجالسيه أن هذا مشروبه المفضل الذي لا يغيره.

قال علوان: طيب، اطلب لي شي نوع حتى إشرب معك هلق، وإذا حبيته بساويه مشروبي المفضل.

كأس الفودكا المخلوط بالصودا - الذي اقترحه اللولب - جعل رأس علوان ينمل، وصارت مقدرته على تلقي النصح أكبر من ذي قبل. قال اللولب إن الإنسان يشبه المدينة التي يعيش فيها. ثمة مدينة صغيرة ومدينة كبيرة. ومَن كانت لديه موهبة كبيرة مثل علوان إذا بقي يعيش في الضيعة، فالشيء الطبيعي أن يقرأ أشعاره في الفرقة والشعبة، وأحياناً في الفرع، ولكن لو كان يعيش في الشام فلن يتنازل ويلقي شعراً في مكان أقل من القيادة القطرية، أو رئاسة مجلس الوزراء، ويمكن، كذلك، أن ينتسب إلى اتحاد الكتاب، ويطبع أشعاره في وزارة الثقافة، و..

سكت اللولب فجأة.

قال علوان: وشو كمان معلم؟

قال الحجي اللولب وهو يضحك: إنته هون المعلم، مو أنا.. علي الطلاق أنا لو عندي ربع موهبتك ما بتوظف غير في التلفزيون، وما بلقي شعر إلا في قصر المؤتمرات قدام السيد الرئيس حافظ الأسد شخصياً.

كرع علوان ما تبقى في كأسه دفعة واحدة، ونادى للجرسون وطلب كأساً ثانياً، وقال:

- هلق إذا أنا سكرت شو لازم أعمل؟

قال الحجي: خدها قاعدة، لما الواحد بيسمع كلام بيفيده بحياته ومستقبله ما بيسكر. شوف يا أستاذ علوان، أنا بدي إحكي معك كلام مهم. أول شي إنته لازم يكون معك مصاري تكفيك لحتى تنتقل ع الشام. ولما بتصير هناك أنا مستعد أعرّفك على ناس يفتحوا قدامك الطريق، ويوصلوك للمكان اللي إنته راسمُه في ذهنك.

قال علوان: ما عندي شي أبيعه غير البيت اللي ساكنه؟ بتشتريه مني؟

رد عليه الحجي: لا أبداً. إنته صاحبي وصديقي، أنا ما بخلي المصاري تدخل بيني وبينك. بيعه لغيري. المهم تعمل متلما قلت لك.

وبالفعل، باع علوان البيت، وذهب إلى دمشق، وحقق هناك أمجاداً لم يكن يحلم بها في يوم من الأيام.