الشارع السوري في لاهاي بهولندا

2022.04.16 | 05:01 دمشق

3b900c50-c947-4f45-a90b-01e06fbf1dfb.jpg
+A
حجم الخط
-A

اتصل بي أحد الأصدقاء يدعوني للإفطار في إحدى الخيم الرمضانية في هولندا، اعتذرتُ منه بالقول: الأيام الأولى من رمضان يتغير النظام الغذائي للصائم، ويغدو من الصعب الإفطار خارج المنزل، إضافة إلى أن الحجز في إحدى الخيم يتطلب الثقة فيما تقدمه والتأكد من مهارة القائمين عليها وخبرتهم!

بعد أيام قرأتُ خبراً عبر إحدى صفحات السوشال ميديا السورية في هولندا يقول: "قطعت الشرطة الهولندية ما يدعى بـ "شارع السوريين في لاهاي" لتفريق عدد من المتجمعين هناك، الذين كانوا يحاولون الهجوم على (الانفولنسرتيْن) السوريتين الأشهر في هولندا، حيث كانتا تتناولان العشاء في أحد مطاعم هذا الشارع، إذ قام عدد من المتضررين من الإعلان الوهمي الخاص بـ "الخيم الرمضانية" الموعودة، بمحاولة استرداد حقوقهم من هاتين السيدتين، علماً أن هذه ليست المرة الأولى التي ينخدع فيها عدد من أبناء الجالية السورية في هولندا من قبلهما، وفقاً للخبر.

أحد جوانب تسهيل عملية الخداع للاجئين وتكراره يكمن في وجود كمية إضافية من "الحنين"، والثقة بما يدعى بـ "ابن البلد أو بنت البلد"، والرغبة بتحصيل مكاسب تحت الطاولة من قبل المستهلكين نتيجة الحاجة، أو الرغبة السريعة بالإفادة، أو تعويض خيبات اللجوء، أو الشعور بفقدان البلد الأم.

مصدر خبر الخيم الرمضانية كان مجموعة مغلقة عبر الفيسبوك تدعى بـ "ياسمينات هولندا وأوروبا فيها نحو 35 ألف عضوة"

وثمة، دائماً، تجار ومستثمرون يستغلون مناطق الثقة ليكسبوا المزيد من الأرباح، ويتمثل هاهنا عبر نوع من التواطؤ بين الزبائن وبعض رجال الأعمال، والضحية الرئيسية هو القانون الهولندي وصورة الجالية السورية في هولندا، وهما شخصيتان اعتباريتان لا يهتم بهما الجاني والمجني عليه، المتواطئان على الإفادة والاستفادة في هذا الإطار، لكن كما يقال: القانون صبور إلا أنه في النهاية سيعلن عن وجوده، وهذا ما حدث في أغلب حالات الخداع أو التحايل.

يحدثني ذلك الصديق في اتصال لاحق، أن مصدر خبر الخيم الرمضانية كان مجموعة مغلقة عبر الفيسبوك تدعى بـ "ياسمينات هولندا وأوروبا فيها نحو 35 ألف عضوة"، حيث أخبرته عنها زوجته وهي عضو في المجموعة، وبالتأكيد "كثير من الرجال دخلوا المجموعة الفيسبوكية بأسماء مستعارة".

وهذه المجموعة نوع من مفهوم "لمة النسوان التقليدية أو الصبحيات"، وهي جزء من ثقافة السوريات في هولندا، وفيها منشورات على مدار الساعة، وتتضمن إعلانات متنوعة وقصص درامية من الخطبة والزواج إلى كيفية صنع المحشي، ولن يفوتك شيء متى ما دخلتها أو خرجتَ منها، مثل فيلم هندي تقليدي لا نهاية له، وتبدأ القصص الدرامية الجاذبة للناس في هذه المجموعة من حكاية سيدة، يضربها زوجها الآن وفقاً لمنشورها، وماذا يجب أن تفعل، إلى باحثة عن عمل، إلى راغبة بإعادة "نحت" أنفها، ولا أحد يسأل عن معقولية الكثير من الأخبار/البوستات، إذ يستثمر الفريق الاحترافي "الكذب الأبيض" التخييلي ليبقي المجموعة نشيطة عبر قصص درامية، ليتم نشر إعلانات، يتم قبض ثمنها "كاش" أو عبر تسهيلات وسهرات أو سوى ذلك.

هذه ليست الخديعة الأولى، التي لن يتعلم منها أحد، عبر منشورات هذه المجموعة في السنوات الأخيرة، إذ سبقتها إعلانات وحكايات وفضائح تتعلق بــ "مكاتب السفريات ومدارس تعليم اللغة وعيادات التجميل والأسنان والحفلات الغنائية"، ولأن السوشال ميديا لا ذاكرة لها والكثير من منتجها يقع في سياق عصر التفاهة، كما يسميه المثقفون التقليديون، فإن حبات المسبحة مستمرة في الدوران.

لا يمنع أن يكون الضحية منكِّلاً بالآخر الضحية، إذ ذكرتْ الأخبار مثلاً أن السلطات اليونانية قد وظفت لاجئين لمساعدتها في التنكيل باللاجئين الهاربين من الوجع السوري أو سواه، ويذكر الواصلون إلى هولندا أن أكثر المهربين سوءاً هم المهربون الذين احترفوا المهنة إبان طريق اللجوء، وقرروا تغيير وجهة حياتهم من مشاريع لاجئين سيحصلون على التجنيس في البلدان الجديدة إلى مهربين راغبين بالإثراء السريع.

ومن اللافت أن أكثر المعادين للاجئين (أوميت أوزداغ في تركيا مثلاً) وهو لاجئ سابق، والحال كذلك في هولندا (خيرت فيلدرز) وموقفه من الجالية المغربية واللاجئين عموماً. بل إنَّ عدداً من الأحزاب التي تقف ضد اللاجئين ينتمي إليها أو يقودها أحياناً أشخاص سبق أن كانوا لاجئين، ولم يجد علم النفس لذلك تفسيراً سوى وجود عُقد وإشكالات نفسية تظهر على شكل عداوة وانتقام من ضحية مشابه لوضعه، قبل أن يغدو جزءاً من المجتمع الجديد مثلاً، أو رغبة بتقديم أوراق اعتماده له.

إلى جانب الاستثمار السياسي في اللاجئين، هناك استثمار ناعم آخر في هولندا يتمثل في استعمال تسميات سورية بحمولات دلالية كبيرة لها وقع خاص في الذاكرة السورية، من مثل: زهور من دمشق، الميدان، الحميدية، قلعة حلب، الفستق الحلبي، باب الحارة، الفرات، حلويات الشام، وهذا وفقاً لآليات علم التسويق له ما يسوغه، غير أنه تبعاً للتجربة؛ فإن هذه التسميات أبعد ما تكون عن النكهات الأصلية أو تمثل الدلالة الرمزية التي تحيل إليها التسمية، وهي بنظر المستثمرين ليست أكثر من علامة تجارية، يمكن أن تجذب إليها الزبائن المشغوفين بحنينهم إلى كل ما هو سوري، بعد أن طالت رحلة اللجوء بهم لتغدو رحلة إقامة. لذلك أصاب معظم هذه المشاريع الفشل، لأن الكثير ممن قاموا بها أشخاص غير محترفين، وهي ذات فضاءات مكانية ضيقة، أو من الباحثين عن الثراء السريع غالباً، إضافة إلى عدم قدرتهم على صناعة وشائج مع زبائن من المجتمع الجديد، وترافق ذلك مع عدم وجود جمهور كاف من اللاجئين السوريين القادرين على أن يكونوا زبائن دائمين، إذ لا يزال يعيش معظمهم على المساعدة الاجتماعية، مع أنهم هبّوا أول افتتاحها مدفوعين بــ "نوستاليجاهم" نحوها.

لم يتم تأسيس "الشارع السوري في لاهاي"، بصفته مكاناً سورياً مفتوحاً، نتيجة خطة مسبقة، أو جهود منظمة بل إنَّ ما ساعد على تأسيسه وجود مواقف سيارات مجانية في مدينة، تكلفة ساعة وقوف السيارة أربعة يورو مثلاً، إضافة إلى سهولة الوصول إليه من الطريق السريع، ووجود جالية سورية تسكن حوله، وتعويله على وجود سفارات وقنصليات أجنبية ومنظمات دولية في لاهاي، وتعود تسمية هذا الجزء من الشارع الرئيسي بهذا الاسم إلى أكثر من خمس سنوات مضت، حيث تم تأسيس مطعم باسم دمشق فيه، ولحقته محلات ومطاعم وعيادات عدة لسوريين آخرين لاحقاً...

اسم الشارع الرئيس، الذي يشكل الشارع السوري جزءاً منه هو: Goeverneurlaan أي شارع الحاكم حيث كانت تسمية Goeverneur تطلق على الحاكم العسكري، ممثل الملك في الجزر والبلدان التي احتلتها هولندا، ويقع في حي (لاك كفارتير: رفاق الخندق) جنوب لاهاي، حيث حُفِرَت خنادق للدفاع عن هولندا إبان الحرب العالمية الثانية، وقد امتلأت لاحقاً بالمياه.

يقدم شارع السوريين في لاهاي عينة بحثية مهمة عن التواشج الذي بات يعيشه الإنسان بين السوشال ميديا والحياة الواقعية

الشارع السوري في لاهاي أحد تمثيلات الشخصية السورية في حياة اللجوء الجديدة، حيث يقصده كثيرون لأغراض متعددة منها ما هو اجتماعي، أو تجاري، غير أن كثيرين يقصدونه من أجل لقمة طيبة، أو للبحث عن عروس أو عريس، أو عن بداية جديدة في حياتهم يريدون أن يشبهوها بلقمة أكلوها ذات يوم في مطعم سوري ما، غير أن "لاهاي هي لاهاي"، ولن تغدو دمشق أو حلب ذات يوم، كل شيء مختلف الطعام والوجوه والأمكنة والهموم والتفاصيل والضحكات، ولون الفرح الذي لا يشبه ذلك الفرح العتيق الذي ولَّده ظرف ما في حياتك.

يقدم شارع السوريين في لاهاي عينة بحثية مهمة عن التواشج الذي بات يعيشه الإنسان بين السوشال ميديا والحياة الواقعية، ذلك أن الكثير من أحداثه ومحلاته عرفت وبنت سمعتها بسبب السوشال ميديا، وفي الوقت نفسه كانت السوشال ميديا والواتس أب سبباً في انهيار عدد من تلك الشركات، أو زيارات متكررة لمفتشي الضرائب والجمارك، عبر مداهمات طارئة.

يقدم هذا الشارع مثالاً عن حالة اللاجئين الباحثين عن موطئ روح أو قدم، حيث تسمع شكوى من عدم تعلم اللغة، أو قد تصادف صاحب مشروع محاطاً بعدد من الصبايا، أو انفلونسرز محاطة بجمهورها، أو تلتقي بأشخاص كثيرين يسألونك سؤالاً تقليدياً سورياً محبباً (أحياناً): "كأني بعرفك أو شايفك أو ملتقين قبل"؟

لا يشكل الشارع السوري في لاهاي "غيتو" خاصاً بالسوريين، حيث تقع محلاتهم ومطاعمهم في سياق محلات وشركات هولندية كثيرة، ونتيجة دراسات وتجارب سابقة، لا يحبذ المجتمع المستضيف فكرة الأحياء المنعزلة لـخلفية واحدة من "القادمين الجدد" وفقاً لتسمية الملك الهولندي، لذلك تمَّ تخصيصهم بمساكن تنتشر في كل قرية وحي في هولندا، والجالية السورية من جهتها ليست من الجاليات الميالة للانكفاء على نفسها، بل إنَّ العمل في التجارة، والرغبة بالتميز في أقصر الأوقات جزء أصيل من مكونات الشخصية السورية، مما يقتضي اتصالاً مع الآخر وتواصلاً وانفتاحاً.