السينما والخيال العلمي والخضوع للسيستم

2022.06.29 | 07:03 دمشق

الممثل الكوميدي فؤاد المهندس في فيلم أرض النفاق
+A
حجم الخط
-A

قبل أكثر من خمسين عاما عرضت السينما المصرية فيلما كوميديا خياليا مستوحى من قصة للروائي والقاص المصري يوسف السباعي تحت اسم (أرض النفاق) من إخراج فطين عبد الوهاب وبطولة فؤاد المهندس وشويكار وسميحة أيوب.

يحكي الفيلم عن مسعود أبو السعد الموظف الغلبان العاجز عن إرضاء متطلبات زوجته وتغيير حياته المادية والاجتماعية، وفي إحدى مشاويره اليومية يصادف دكانا يبيع صاحبها حبوب الأخلاق، فيفاجأ حين يخبره البائع أن البضاعة الرائجة حاليا هي حبوب الأخلاق السيئة ويقرر مسعود أبو السعد شراء حبوب الأخلاق الجيدة عل حياته تتغير، يبلعها مع الماء لتبدأ الكوارث والخسارات تعصف بحياته، فصاحب الأخلاق الحميدة لن يربح في هذا العالم مطلقا ولن يقابل بغير الاحتقار والاستهتار والتنمر، يعود إلى البائع ويطلب منه حبوب الأخلاق السيئة فيعطيه من العقار المطلوب ليرى نفسه قد تغير ما إن بلع الحبة الأولى، طريقته في الكلام مع الآخرين، جيرانه وزملائه في العمل ومديره وزوجته وعائلته، وتبدأ حياته تأخذ شكلا جديدا حينما تفتح له أبواب النعيم المادي، الذي يفتح له بدوره أبواب الجنة الاجتماعية من الاحترام والتقدير والتعظيم لكن هذا كله جعله يفقد المودة وطيبة القلب والعلاقة الطيبة الحنونة مع زوجته التي انساقت في الحياة الجديدة وتحولت إلى سيدة مجتمع.

يعيش مسعود في حياة صاخبة ومرتاحة ماديا لكنها قائمة على العلاقات الكاذبة والمشاعر الكاذبة ويشعر أنه بات شخصا آخر فيتمرد على ما وجد نفسه عليه ويعود إلى حياته الأولى وهو مدرك أنه سوف يفقد عالمه الجديد.

قبل أيام بدأت شبكة نتفليكس بعرض فيلم بعنوان (الهروب من سبايدرهيد) الفيلم مأخوذ عن قصة نشرت في مجلة نيويوركر للكاتب الأميركي المعاصر جورج سوندرز وهو روائي ومترجم وصحفي وعالم فيزياء وحاصل على عدة جوائز منها جائزة البوكر العالمية. والفيلم، وهو فيلم خيال علمي، من إخراج جوزيف كازينسكي وبطولة كريس هيمسوورث (الذي شارك في الإنتاج) ومايلز تيلر وجورني سموليت بيل. سبايدرهيد هو سجن متطور جدا مبني على جزيرة تحمل نفس الاسم تجري فيه اختبارات على عقاقير جديدة عبر زرع شريحة في أجساد المتطوعين يتم حقنها بالعقاقير المختارة ويراقب المختصون ردود أفعال أجساد وعقول المتطوعين عليها قبل طرحها في الأسواق.

الهدف هو تجريب عقار سوف يغير من طبيعة البشر، عقار الطاعة والموافقة على كل الأوامر التي يتلقاها البشر بشكل آلي من دون أي اعتراض

المتطوعون أساسا هم نزلاء سجون متهمون بجرائم أو بجنح وافقوا على أن يكونوا فئران التجارب مقابل بعض الامتيازات كالقاعات المفتوحة والفسحة الأسبوعية في الخارج واستخدام الهواتف النقالة والطبخ والتجمع وغيرها من بعض الامتيازات التي لا تتاح لهم في السجون العادية، ومن العقارات المستخدمة عقار الحب مثلا. حيث يحقن شخصان لا يكترثان لبعضهما البعض بعقار الحب ويراقب المختصون كيف يتحولان سريعا إلى حالة من الحب والشغف ستزول ما إن يزول أثر العقار، وهكذا، حتى يكتشف أحد المتطوعين أن هذا المكان هو ملك شخص يعمل مع جهة مجهولة وأن الهدف هو تجريب عقار سوف يغير من طبيعة البشر، عقار الطاعة والموافقة على كل الأوامر التي يتلقاها البشر بشكل آلي من دون أي اعتراض، أي تحويل البشر إلى مجموعة من الروبوتات المتشابهة والتي تعيش وفق نمط واحد ووحيد وتفكر ضمن منظومة وحيدة موضوعة سلفا ولا يمكن لأحد أن يحيد عنها، طبعا يتمرد البطل والبطلة في نهاية الفيلم ويدمران المختبر/السجن وينقذان البشرية من هدا المصير.

لا أعرف إن كان مؤلف (الهروب من سبايدرهيد) قد اطلع على قصة يوسف السباعي سابقا أم أن الموضوع هو في إطار توارد الخواطر والأفكار، مع ما في القصة الأميركية من مجاراة كبيرة لما بعد الحداثة التقنية، حيث فكرة زرع الشرائح في أجساد البشر باتت فكرة وشيكة الحدوث، أو ربما قيد التنفيذ ليس في المستقبل البعيد، وبكل حال فإن قصة السباعي أيضا هي ابنة عصرها، ولا ندري لو كان السباعي حيا حتى الآن وأراد كتابة قصة مشابهة هل سيراعي فيها ما وصلت إليه البشرية من تقدم تقني يمكنه أن يخدم أفكار قصته أم لا.

وبعيدا الآن عن التشابه بين القصتين في الحدوتة والحبكة، فإن الملفت في القصة الأميركية هو الرغبة في إدخال البشرية كلها في (حظيرة) لا يخرج خارج أسوارها أحد، فرض الطاعة على الجميع، ورغم أن مالك منشأة سبايدرهيد في القصة الأميركية يبرر ذلك بأنه في صالح البشر حيث سيتم توجيه البشرية نحو فعل الخير ما يوقف الحروب ويوقف كل الشرور في العالم، فإن كاتب القصة يعي تماما أن البشرية تسير نحو الخضوع والدخول ضمن النظام العام أو ما يسمى بـ the sistem  وهو أحد الشروط الأساسية لفرض السيطرة الكاملة للمنهج الرأسمالي، حيث المليارات من البشر تخضع لشروط السوق كمستهلكة للمنتج التقني الما بعد حداثوي والذي يتطلب لنجاحه خضوعا تاما ونمط حياة شبيها بنمط الآلات أو الروبوتات، عمليا وباردا ومحايدا ولا مساحة فيه للمشاعر.

أثبت الزمن أن الكثير مما قدمته السينما العالمية من أفلام الخيال العلمي تحول لاحقا إلى واقع، ذلك أن التقدم العلمي والوعي البشري الما بعد حداثوي استطاع الاستفادة من الخيال بل وتجاوزه في كثير من الأحيان. مازالت حديثة جدا نظرية المؤامرة التي انتشرت عالميا لدى رافضي لقاح الفايروسات لاسيما فايروس كورونا ممن اعتبروا أن الهدف من اللقاح هو زرع شرائح في أجسادنا تمكن النظام العالمي الحاكم من التحكم بسلوك البشر وردود أفعالهم وتمكنه من السيطرة عليهم وإجبارهم على الخضوع لخططه ونموذجه المعيشي.

رغم أن البشرية قادرة على التأقلم للعيش في كل الظروف إلا أن رغبة الإنسان في التحرر والتخلص من القيود تبدو بنفس قوة قدرته على التأقلم

ورغم أن هده النظرية تبدو أقرب للكوميديا منها للواقع لكن أصحابها محقون جدا، ذلك أن الاستباحة التي تحدث لحياتنا بسبب التقنيات الحديثة ولاسيما الهواتف الذكية وكل ما يرتبط بها، وفقدان أدنى درجات الخصوصية تجعل من مسألة الكلام عن زرع الشرائح ليس كلاما مرسلا أو قادما من مجموعة مهووسيين ومتوجسين بل هو أمر يبدو أنه في طور التحقق في زمن قد لا يكون بعيدا بالقياس إلى الخطوات بالغة السرعة التي يخطوها العلم والاختراعات المذهلة التي تحدث يوما بعد يوم.

ورغم أن البشرية قادرة على التأقلم للعيش في كل الظروف إلا أن رغبة الإنسان في التحرر والتخلص من القيود تبدو بنفس قوة قدرته على التأقلم، سيوجد ذات يوم من يتحدى القيود ويرفض السيستم ويخرج عنه ويتمرد عليه ويكون نموذجا لآخرين مثله، فالإنسان هو من اخترع السيستم وهو أيضا من سيدمره.