السياسة والأخلاق.. وبعض تجليَّاتها العربية

2021.08.25 | 06:16 دمشق

ttttal.jpg
+A
حجم الخط
-A

تتأسس هذه المقالة على سؤالين متعالقين: المسألة الأخلاقية في الفرد، بوصفه فرداً، وبوصفه متِّحدًا بالجماعة، أو بالمجتمع، ومدى حاجته إليها، والبُعْد الأخلاقي للدولة، بوصفها كيانًا مفارِقًا لكيان الفرد، وذات وظيفة مغايرة لوظيفته.

وقد لا نطيل في حاجة الفرد والمجتمع إلى الأخلاق... فأنْ يتجرّد الإنسان إلى البُعْد المادي النفعي، فقط، أمرٌ يتعِبه، ويتعِب مَن يتعاطى معه؛ إذ العلاقة المتبادَلة التأثير بين الروح والجسد أكثر وضوحًا. ولكن التركيز هنا على الأفعال السياسية التي تمارسها، أساسًا، الدولة، والجماعات السياسية، وإنْ بشكل مختلف.

على الرغم من الاختلافات حول معيار الأخلاق المقبولة، أو العالية، (وهذا بحث يطول) إلا أننا لا نعدم مشترَكات اتفقت عليها الإنسانية، منذ زمن طويل، واستمرَّت، وتجسّدت، حقوقيًّا، في قانون إنساني عالمي، وقامت عليها، هيئات دولية، أهمُّها الأمم المتحدة.

وعلى الرغم من اختلاف النظريات الفكرية حول مرجعية الأخلاق، والجهة التي تتحكَّم في تقريرها، (كما رأى ماركس في كون الطبقة الرأسمالية المالكة لأدوات الإنتاج هي التي تفرض أخلاقها) إلا أن الإنسان غير المؤدلج لا يكاد يختلف حول أساسيات الأخلاق، وفي الحدِّ الأدنى منها انسجامُها مع الحدِّ الأساسي من حقوق الإنسان، كما حقُّه في الحياة، وفي مساواة الفرص، وحتى ماركس رأى أن الإنسان، بشكل أساسي، هو كائن واعٍ وحرّ وخلّاق، لولا العجز والتشيُّؤ الذي تفرضه الرأسمالية ونظامُها. وتلك صفات لا تنفكُّ عن السمات الخلقية الطبيعية التي يلزم استبقاؤها، وصيانتها.

الاختلاف حول علاقة السياسة بالأخلاق:

فنحن بين نظرةٍ توحِّد بين الأخلاق والسياسة، كما ذهب أرسطو، وبين فكّ الارتباط بينهما، كما مكيافيلِّي الذي ميَّز بين الأخلاق والسياسة، ورأى أنَّ الغاية تبرِّر الوسيلة، وأنّ الوسائل للمناورة البارعة، وهي لا أخلاقية، وتتعدَّى التقويم الأخلاقي، والهدف عنده في نهاية المطاف هو الحفاظ على السِّلْم والنظام. وقد افترض أرسطو وجود معايير كليَّة، وبشكل حكم دستوري، تعلو سلطةَ الحاكم، أما مكيافيلِّي فقد أجاز لإرادة الأمير أن تحدِّد القانون والأخلاق، غير أن الغاية الأخيرة محدَّدة، وهي الاستقرار السياسي. وأما أرسطو فيرى أن ـ"الحياة الخيّرة هي غاية دولة المدينة"، وهي حياة تشيّدها أعمال نبيلة، فغاية الدولة، عند أرسطو، هي تحقيق الخير الأسمى، (لا تحقيق أقصى قدر من الثروة)، وذلك بتحقيق حاجات أفرادها. ولو أنه في الجانب التطبيقي لهذه الفكرة النظرية لم يمنح الكلَّ حقوقًا متساوية، كما في حرمانه النساء والعبيد والطبقات العاملة من حقِّ الانتخاب.

وقدَّم مكيافيلّي الفرضية القائلة: إنه ينبغي ألا تخضع الدول للقيود الأخلاقية نفسها التي يخضع لها الأفراد، ولأن الإنسان، بحسبه، أنانيُّ النزعة، وليس لرغبته في الأشياء والسلطة حدود، فعلى الحاكم أن يكون قاسيًا، من أجل أمن الدولة، وحياة الشعب.

المصالح والقوَّة هما مُحرِّكا السياسة، وهما ضابطا الصراعات الدولية؛ تلك المصالح التي تتَّسع لتصبح حيوية، أو تتراجع؛ لُيمْكِن التنازل عنها، وفقًا لقوَّة الدولة، وموقعها على المسرح الدولي

وفي الجوهر، فإن حقوق الإنسان- حتى لو ذهبنا إلى أدنى نطاق لتحديدها- لا بدَّ ستحتفظ بحقَّين أساسيَّين: حقّ الحياة، وحقّ المساواة في الفرص. ومن المعلوم، وفق مبادئ حقوق الإنسان، أنه إذا كان حقٌّ ما محددًّا بصفته حقًّا إنسانيًّا، فهذا يعني أنه عالميٌّ بطابَعه، وملكٌ لجميع البشر بشكلٍ متساوٍ.

وإذا انتقلنا إلى السياسة العملية، ووفقًا للنظرة الواقعية، فإن المصالح والقوَّة هما مُحرِّكا السياسة، وهما ضابطا الصراعات الدولية؛ تلك المصالح التي تتَّسع لتصبح حيوية، أو تتراجع؛ لُيمْكِن التنازل عنها، وفقًا لقوَّة الدولة، وموقعها على المسرح الدولي. وبعبارة أكثر صراحة، ليس في السياسة أصدقاء ثابتون، ولا أعداء ثابتون، ولكن مصالح ثابتة، وفقًا للتصريح الكلاسيكي الذي أدلى به وزير الخارجية البريطاني لورد بالمرستون: "أنْ "ليس لبريطانيا أصدقاء دائمون، أو أعداء دائمون، وإنما مصالحها فقط، هي الأبديَّة".

وعليه، فقد لا نطمح إلى مدَيَاتٍ بعيدة تبلغها "الأخلاقية" في السياسة، في العصر الحديث؛ إذ لم تتجسَّد (وفقًا لـ روبرت كوبر مؤلف كتاب تحطُّم الأمم) دعوة مفكرين مثاليِّين أمثال أمانويل كانت في إقامة حكومة عالمية، أو حكومة أوروبية، وإن فكرة أمم متحدة، كحكومة عالمية (لم يقصد لها أنْ تكون كذلك أبدًا) لا تزال قائمة، وكثيرًا ما تتعرَّض الأمم المتحدة للانتقاد لعجزها عن أن تكون كذلك.

ومع ذلك، فالفعل السياسي ليس مستغنيًا بالكليَّة عن التسويغ الأخلاقي، مثال ذلك ادِّعاء كلٍّ مِن المعسكر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، والمعسكر الشرقي، بقيادة الاتحاد السوفيتي، بأنَّ نموذجه لما يجب أن يكون عليه العالم هو المتمتِّع بشرعيَّة عالمية، وسلطة أخلاقيَّة.

فلم يصل العالم، بعد كلِّ هذه الصراعات، والارتهان إلى المصالح المادية إلى درجة السفور التام، أو التجرُّد الكامل من الأخلاقية، أو الشرعية الأخلاقية، فلم تُقْدِم الولايات المتحدة على غزو أفغانستان عام 2001 تحت ذريعة البحث عن مصالحها الإستراتيجية والجيوسياسية، ولكن تحت بند العدالة من تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن الذي اتُّهِم بالوقوف وراء الهجوم على برجَي التجارة العالمية، في نيويورك، وعلى مبنى وزارة الدفاع البنتاغون، وتحت بند محاربة الإرهاب. وكذلك لم تُقْدِم الولايات المتحدة على غزو العراق، عام 2003، إلا بعد ادِّعائها وبريطانيا الحصول على غطاءٍ قانونيٍّ من الأمم المتحدة، وفي تحالف دولي واسع.  

 هذا قد يدل على ما تخشاه حتى الدول العظمى من الانكشاف التام، أخلاقيًّا، وتأثير تلبُّسها بصفة البلطجة الدولية على مكانتها الدولية وأدوارها العالمية، وحتى على نظرة شعوبها لها؛ فالقانون الدولي مستندٌ في مصدرٍ من أهمِّ مصادره إلى العُرْف الدولي الإنساني، إذ "يمثِّل القانون الدولي العُرْفي المصدرَ الأساسي الثاني للقانون الدولي، وهو مكوَّن من الممارسات الشائعة لدى البلدان، والتي أصبحت مع مرور زمن معيِّن مقبولة، بوصفها ملزمة قانونيًّا،(...) ويرتكز القانون الدولي العرفي على عاملين، الأول هو عبارة عن ممارسة ثابتة ومتِّسقة. ومن الضروري إثبات أنَّ عددًا كبيرًا من الدول القوية نسبيًّا منخرطة في هذه الممارسة، وأنها مستخدَمة منذ فترة طويلة من الزمن." "المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية: مارتن غريفيش وتيري أوكالاهان".

ولكن السياسة الفعلية للدول والكيانات السياسية كثيرًا ما تبتعد عن هذه الأسس القانونية الإنسانية، حتى تبلغ مرحلة توظيف تلك المرتكزات، في ازدواجية مَقيتة، ومفضوحة. ومن ذلك أنَّ "القوى الأوروبية التي كانت تدير نظام توازن، في قارَّتها الخاصة بها. مع قبولها الدول الوطنية والتعددية الدولية، كانت تدير إمبراطوريات، عبر البحار، تخمد الروح القومية، وتعادي التعددية". " تحطُّم الأمم".

 ومن هذه الازدواجية والانتقائية، ما حدث مؤخَّرًا، من رفْع الحكومة البريطانية العقوبات المفروضة على رجل الأعمال السوري البارز طريف الأخرس، من دون الكشف عن أسباب القرار، برغم كون المذكور مِن أبرز الداعمين للنظام السوري، وهو عمُّ أسماء زوجة رأس النظام بشار الأسد. وهنا مثال واضح على تغلّب السياسة النفعية على القيم القانونية، إذ رأت صحيفة التلغراف البريطانية أنَّ القرار مهمٌّ جدًّا للأسد الذي يسعى إلى الاعتراف، وإعادة الاندماج في المجتمع الدولي، ودعم إعادة الإعمار في سوريا.

وهناك حالات فارقة تُظهِر تمايُز الفرد أخلاقيًّا عن كيان الدولة، ذلك مثلًا، حين يبتعد، أو يُبعَد السياسيُّ عن جهاز الدولة التنفيذي، فلا يعود في موضع القرار، فيصبح أسهل أن تظهر ذاتُه الأخلاقية، وقد يُظهِر بعض ندمه. ولكنه لو عاد إلى السلطة، فغالبًا، سيرتكب ما يشبه تلك الفظائع، أو المظالم.

مثال ذلك: أن الرئيس الأمريكي الأسبق الذي بدأ الحرب على أفغانستان انتقد انسحاب قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) من أفغانستان، معتبرًا أنه "خطأ" و"ضرر لا يوصَف" ستعاني منه "النساء والفتيات الأفغانيات"

وعندما سألت DW الصحفي المقيم في كابول علي لطيفي عن تعليقات بوش، قال: "أعتقد أنه من المثير جدًّا أنه فجأة، كما تعلمون، أصبح قلقًا بشأن النساء والأطفال"، مضيفًا "أن حربه خلَّفت الكثير من الأرامل، ويتّمت الكثير من الأطفال".

وقريبٌ من هذا أنَّ حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، بعد أن انتهت حرب 2006، أعلن أنه لو كان يعلم أنَّ عملية أسْر الجنود الإسرائيليِّين ستؤدِّي إلى حرب كالتي حصلت في لبنان لمَا أقدَم عليها، قطعًا. لكنه، بعد ذلك، قبِلَ، ودافع عن قراره المشاركة في الحرب على الشعب السوري الذي طالب بإصلاحات ضرورية، آلَتْ إلى مواجهة واسعة مع نظام الأسد؛ ما أدّى إلى تدميرٍ كبيرٍ في سوريا، كان حزب الله، مع إيران التي تدعمه، عنصرًا فاعلًا فيها.  

ونلحظ، هذه الحالة، في قوى عربية حاكمة، أو خارج الحكم، ذلك حين تنحصر المشاعر الإنسانية داخل كيان تلك الجماعات، بتعاطُفٍ قَطيعيٍّ، (نسبةً إلى القطيع)، حين تنعدم تلك المعايير الأخلاقية والإنسانية، ليس فقط مع الخصوم السياسيِّين، أو حتى الأعداء، ولكنها تنعدم مع مَن هو خارج تلك التحالفات، ولو لم يكونوا ذوي صلة، ولو كانوا مدنيِّين، تشغلهم لقمةُ العيش، وستر أنفسهم، وأُسَرهم؛ في اقتراب مع مقولة جورج بوش الابن، والمحافظين الجُدُد: "من ليس معنا فهو ضدَّنا"، كما ظهر من انتهاكات جسيمة، وبشعة في العراق؛ إبّان تصاعُد القتل الطائفي، والقتل على الهُويَّة، (2006- 2008)، وكما ظهر في سنوات الثورة السورية، من سلوكيات بالغة الدناءة، باعتداءاتٍ على أعراض بسطاء الناس، وفي نهب ممتلكاتهم، فيما عُرِف، مثلًا، بظاهرة التعفيش.

حتى الحركات الأيديولوجية والطائفية لا تستغني عن روافع أخلاقية، ولو كانت وظيفية تحشيدية، كما الإسراف في توظيف المظلومية، من جماعات طائفية ذات أجندة سياسية، في منطقتنا العربية.

هذا ويستدعي الحدث السوري المأساوي، وثورة السوريِّين على نظام الأسد، مسألة حدود سيادة الدول، وحالات تُفقَد فيها القدرة على منع التدخُّل في شؤونها الداخلية، ذلك حين يرتكب النظام الحاكم مجازر فظيعة ترقى إلى تسمية جرائم الحرب، أو الإبادة جماعية، أو التطهير العرقي، وذلك وَفْق مبادئ القانون الدولي، كما حدث في صربيا، عام (19920- 1995)، وكما لم يحدث في الحرب التي دارت في رواندا، عام 1994، حين ذُبِح أكثر من 800000 من الشعب الرواندي، على نحو منهجي؛ ما حمل المجتمع الدولي، بمن فيهم الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون  على الاعتراف بأنه خيَّب آمال الروانديين.

قد لا يقوى العامل الأخلاقي، وحده، في كثير من الأحيان، على أنْ يكون العامل الحاسم في الصراعات السياسية، ولكنه بالتأكيد، يسهم، مع غيره، في إعادة صياغة المواقع السياسية للفاعلين السياسيِّين

مثال آخر تنتفي فيه المسؤولية الأخلاقية، حين تُعفَى إسرائيل من المحاسبة على ما ترتكبه، باستمرار، من انتهاكات بحقّ الفلسطينيين، وأيُّ مسؤولية، وأيُّ أخلاقيَّة في التغاضي عن عنصريِّتها التي باتت في الآونة الأخيرة أكثر وضوحًا، لكن هذه الـ إسرائيل أصبح بإمكانها، على نحو متزايد الاستفادة من مقارنتها بنظُمٍ عربية فاقتها في التدمير والبطش، بمن عارضها، أو هدَّد وجودها، وأصبح بإمكانها الاستفادة، على نحو متزايد، أيَضًا، من المقارنة بين الأحوال المعيشية المزرية التي تتسبَّب بها نظمٌ عربية في العراق وسوريا ولبنان، ومصر، وغيرها، وبين الأحوال المعيشية التي يحياها الفلسطينيون، تحت احتلالها، سواء في أراضي الـ 48، أو في الأراضي المحتلة عام 67. 

وأخيرًا قد لا يقوى العامل الأخلاقي، وحده، في كثير من الأحيان، على أنْ يكون العامل الحاسم في الصراعات السياسية، ولكنه بالتأكيد، يسهم، مع غيره، في إعادة صياغة المواقع السياسية للفاعلين السياسيِّين، داخليًّا، كما حين يظهر حزبٌ ما بصورة الانتهازية السياسية، مثلًا، مع إغفاله المصالح الحقيقية لشعبه وبلده، إلى درجة تنكُّصِه لمبادئه وشعاراته. وخارجيًّا، كما حين تظهر دولة ما بمظهر الدولة الجشعة إلى خيرات الشعوب الضعيفة، أو بمظهر دولة البلطجة، فحتى إسرائيل الدولة القائمة بالاحتلال، لا تنفكّ تحاول تظهير نفسها بمظهر الضحيَّة، تحت دعم أميركي مطلق، ولكن لا تزال الوقائع تراكِم في وعي الشعوب، ورأيها العام، أفكارًا مِن شأنها، مع عوامل مادية أخرى، إحداث تغيُّرات نوعيَّة.