السياسة الأمريكية في سوريا.. مع الجميع وضدهم في آن واحد

2018.11.27 | 00:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تنتهج الولايات المتحدة الأمريكية، سياسة زئبقية في الشرق الأوسط، تخولها السيطرة والتحكم في العديد من المحاور الاستراتيجية بأقل التكاليف، بعد حصولها على مساحات أوسع من الضجيج الربحي، إذ تراها مع الجميع وضدهم في ذات الوقت، فالمتناقضات التي تديرها واشنطن في سوريا بخطوات معقدة ومدروسة، وآخرها "نقاط المراقبة"، والتي تم إنشاؤها على ما يبدو وفق أطر وعوامل زمنية ومرحلية مصيرية وحساسة بالنسبة للهواجس التركية من إقامة دويلة كردية تهدد مستقبلها إنطلاقاً من شمال سوريا، وإذا ما فحصنا العزف الأمريكي على هذا الوتر والتلويح به ميدانياً، نجد أن واشنطن ترغب في إقناع تركيا بالعدول عن فكرة الحل العسكري ضد وحدات حماية الشعب الكردية، وفي ذات الوقت تقوم بضبط إيقاع التنظيم الذي أسسته، وتحول دون قيامه بخطوات استفزازية ضد تركيا في المرحلة الراهنة، مع الإمساك بخيوط التوتر والتهدئة لمراحل قادمة.

لعل من أبرز الأهداف التي تنحو إليها واشنطن من خلال نقاط المراقبة التي بدأت في تشكيلها شمال سوريا، ضمن المواقع التي تسيطر عليها وحدات حماية الكردية، هو نقل المعركة بين تركيا والتنظيم المدعوم من التحالف الدولي من الساحات العسكرية إلى السياسية، وبالتالي يجني الأمريكان العديد من الثمار، أولهما تأجيل حسم ملف شائك بالنسبة إلى تركيا، وفي المقابل تمكين أمريكي أشمل في سوريا المفيدة، وخلق أزمة دولية أوسع من السابقة بين أنقرة والوحدات، تفسح المجال لقضم المزيد من الوقت وبالتالي خلق مطبات جديدة ينتج عنها أوراق أخرى قد تعيد المعركة إلى بدايتها، وربما يتم التوصل في فترات لاحقة إلى حلول جزئية لا تضع النقاط على الحروف بالشكل المناسب.

سياستها الزئبقية المتبعة تمحورت حول طمأنة طرفي الصراع الأساسيين "النظام – الشعب السوري"، فتغاضت عن قرار الإبادة الجماعية التي تعرض لها السوريون، وكان دعمها للثورة يوحي بأنها معهم حتى النهاية

تباينات السياسة الأمريكية في سوريا، ليست وليدة تعويم كفة الوحدات الكردية في المشهد العام، ودفعها لدائرة الأحداث بشكل أكبر، بعد إزالة الفقرات التي كانت تصنفها كـ "منظمة إرهابية" في عام 2014، رغبة من واشنطن في تفعيل خيار التعامل مع الوحدات في سوريا، وتحجيم فعالية المعارضة السورية رغم السماح بدعمها في كافة الجوانب المدنية والعسكرية وحتى السياسية، ولكن سياستها الزئبقية المتبعة تمحورت حول طمأنة طرفي الصراع الأساسيين "النظام – الشعب السوري"، فتغاضت عن قرار الإبادة الجماعية التي تعرض لها السوريون، وكان دعمها للثورة يوحي بأنها معهم حتى النهاية، وإلى حين تحقيق مطالبهم، ولكن ما فعلته بأنها أدارت الحدث من منتصفه، لا غالب فيه ولا مغلوب، حتى قررت مؤخراً قلب المعادلة، إذ باعت بعض من كانت تدعمهم لصالح من كانت تتوعد بمحاسبتهم لما اقترفوه من جرائم، فهزمت من دعمتهم لسنوات وجعلت من كانت تحاربه منتصراً.

لكن في الحالة الكردية، فإن الطمأنينة المرحلية التي تنعم بها "الوحدات الكردية"، لا تعني بالضرورة مغادرتها لدائرة الخطر، ونجاتها من السياسة الزئبقية المعمول بها أمريكياً في الصراع السوري، وفي هذا أمثلة حديثة المشهد، عندما أجبرت الوحدات الكردية على الانسحاب من مناطق استراتيجية بريف حلب خلال ساعات لصالح تركيا والسوري الحر، بذات الطريقة التي فعلتها مع المعارضة السورية جنوب البلاد لصالح خصومهم، كما أن السياسة الأمريكية تجاه الأكراد يمكن وصفها بـ "الضبابية" رغم الدعم الواسع الذي يتلقونه، إذ إن واشنطن أوصلتهم للقمة في كردستان العراق، ولكن عند محاولتهم الاستقلال، تخلت واشنطن عن دعمهم، وجعلتهم دون حليف دولي يمكنهم المضي من خلاله إلى ما كانوا ينشدون.

السياسة الأمريكية تجاه الأكراد يمكن وصفها بـ "الضبابية" رغم الدعم الواسع الذي يتلقونه، إذ إن واشنطن أوصلتهم للقمة في كردستان العراق، ولكن عند محاولتهم الاستقلال، تخلت واشنطن عن دعمهم

ويبدو أن الولايات المتحدة تميل دائماً إلى سياسة خلق معادلات ميدانية جديدة، غير ثابتة، تحركها المصالح، ومن ضمن ذلك، الآلية المتبعة في مصير الوحدات الكردية، فهي في الوقت الذي تتحدث فيه عن ضرورة محاربة تنظيم الدولة، وأن ثمة نقاط المراقبة بدأت بنشرها على الحدود السورية – التركية، إلا أنها تقوم بتدعيم الوحدات الكردية في منبج بالسلاح والعتاد، رغم عدم وجود لتنظيم الدولة في المنطقة، ولكن يبدو أن واشنطن رفضت المطالب السياسية التركية خلال اجتماع حلف شمال الأطلسي الحاصل مؤخراً، بضرورة توقفها عن دعم الأكراد، وهذا التعاطي لعله يعد مؤشراً بأن الولايات المتحدة تريد رسم معالم تحضيرية في المنطقة، تمهيداً لمشاريع أكثر كلفة ستكون عناوين السنوات القادمة.

ومن الأمثلة الأخرى على كيفية إدارة واشنطن للملف السوري بشكل معقد، نلاحظ بأنها عززت بشكل مباشر وغير مباشر فكرة تغريد الوحدات الكردية عن الثورة، وأقلها الأطراف المحلية الذين كانت تدعمهم بالسلاح والعتاد والمال، ففي الوقت الذي كان بإمكانها الحصول على جسم متماسك من المعارضة السورية ومؤهل لإدارة المرحلة، توجهت إلى إبعاد الأكراد عن الشارع السوري الثوري، الحدث الذي أنتج عداوات لم تبقى ضمن الفصائل العسكرية، وإنما انتقلت للنسيج الاجتماعي الذي يدفع ثمن سياسات ومصالح لا ناقة له فيها ولا جمل.

ولكن، ماذا عن الاحتمال الأسوأ للعديد من دول المنطقة؟ وهو إقدام الولايات المتحدة على تعزيز فكرة استقلال الأكراد السوريين مع العراقيين، وإنشاء دويلة خاصة بهم في أكثر المناطق حساسية، والتي تهدد من وحدة سوريا وتركيا والعراق معاً، انطلاقاً من شمال سوريا، ورغم استبعاد العديد من الساسة لهذا الخيار، لا يمكن التهكم بما قد يحدث، فالسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط خلقت فوضى عارمة، لم يتم فيها حسم لأي ملف من القضايا المصيرية، إلا تلك التي تصب في خزينتها الاقتصادية، ففي العراق أنهت تنظيم "الدولة" بشكل شبه كلي، ولكن هل تعافى العراق؟ أم دخل في كنف الوصاية الإيرانية التي تهدد بتمزيقه وعدم عودته للحياة إلى عقود قادمة.

ماذا عن الاحتمال الأسوأ للعديد من دول المنطقة؟ وهو إقدام الولايات المتحدة على تعزيز فكرة استقلال الأكراد السوريين مع العراقيين، وإنشاء دويلة خاصة بهم

وعلى ما يبدو، بأن السياسة التركية ماضية في خيار الحد من تعويم الوحدات الكردية قبل الخطر الأكبر الذي تعطيه الخارجية التركية اهتماماً أولوياً في الحالة السورية لمنع حدوثه، ولكن نقاط المراقبة الأمريكية الأخيرة قللت من الخيارات أمام أنقرة، وعلى رأسها تحجيم الحل العسكري ضد التنظيم الكردي، كما أن تركيا على ما يبدو لا تفكر بالصدام المباشر مع واشنطن أو نقل الخلافات إلى دوائر أوسع خلال المدى المنظور على أقل تقدير، وتجنح للحلول الدبوماسية لتحقيق ما تصبو إليه بأقل الخسائر، ولكن المشهد العام ينذر بمخاطر جمة تتكدس في مستقبل سوريا والمنطقة، خاصة بعد حصول تقارب أمريكي – روسي، من شأنه تضييق الحلول أمام تركيا، ويعطي الوحدات الكردية متنفساً ريثما يتم الانتهاء من ملف تنظيم الدولة شرقي الفرات، والولوج بمرحلة جديدة ستكون حساسة ومصيرية في تاريخ المنطقة برمتها.