السويد في مواجهة العنف مرة أخرى

2022.04.26 | 05:22 دمشق

1240004754.jpeg
+A
حجم الخط
-A

لم تكد تهدأ زوبعة سحب الأطفال في السويد، والتي شغلت الرأي العام في السويد وخارجه فترة طويلة، واستُثمرت من قبل أطراف كثيرة لغايات سياسية، ولغايات خاصة، حتى انفجرت قصة حرق نسخ من القرآن الكريم.

مرة أخرى يتمكّن المتطرف اليميني العنصري "راسموس بالودان" من إغراق الشوارع في خمس مدن سويدية بأعمال العنف، ومرة أخرى يقف العقل والمنطق والقانون عاجزاً، أمام لعبة الاستفزاز الكريهة، التي تحرّض نزعة العنف المتجذرة في العقول التي ترى الدين مجرد مقدسات وعصبيات.

لا يتسلى "بالودان" باستفزاز مشاعر المسلمين عبثاً، ولا يقامر، فهو يعرف جيداً كيف ومتى يستثمر في خلق فوضى عارمة تخدم اتجاهات اليمين المتطرفة، وفي السويد غالباً ما تستبق أفعاله المستفزة حدثاً سياسياً مهماً، كالانتخابات البرلمانية، أو لإضعاف موقف سياسي حيال قضية ما، وهو يُدرك جيداً أن ما يفعله سيكلف الدولة والمجتمع غالياً، وسيُعمق من الاختلافات القائمة في مجتمع يسعى جاهداً لخلق حالة انسجام بين ثقافاته المتنوعة، كمقدمة ضرورية لجعل هذه الثقافات مصدر غنى له، بدلاً من تحولها لحالة افتراق وتحارب، لكنه يمضي إلى ما يريد، وهو متيقّن أن هناك من سيُستفزُّ بسهولة، وستدفعه انفعالاته وعصبيته للتصرف كما يخطط ويريد.  

الصور والفيديوهات التي تناقلتها وسائل الإعلام من خمس مدن سويدية، انفجر فيها العنف، تدمي القلب، صور لعشرات الجرحى من رجال الشرطة، وعشرات السيارات الخاصة بالشرطة وهي تحترق، مدرسة تحترق، وباصات نقل عام تحترق، وتحطيم سيارات خاصة.. الخ، والفاجع أكثر أن أطفالاً شاركوا في أعمال العنف، كل هذه الأفعال نتجت عن رد فعل غاضب على استفزاز مجنون قام به رجل سخّر كلّ حياته السياسية لخلق الفوضى عبر إثارة العصبيات الدينية. 

لا يوجد في القانون السويدي ما يمنع مواطناً سويدياً من حرق كتاب مقدس ما، بغض النظر عن هوية من يقدسه، وعندما يتقدم شخص ما أو جهة ما، بطلب ترخيص لتجمع انتخابي أو سياسي، لا تستطيع الجهة السويدية التي تمنح التراخيص  رفض هذا الطلب، فليس لديها أي نص قانوني يجيز لها المنع، ورغم أن عدم ضبط التظاهر لا ينسجم مع قناعة الكثيرين في السويد، وهناك من يعارضه بقوة، لكن من يعارضونه يدركون جيداً، أن تعديل هذا القانون إنما يحتاج لقوة القانون، وليس لخرق القانون.

يصطدم المجتمع السويدي مع ثقافات حملها مهاجرون أو لاجئون إلى السويد، ثقافات تتعارض مع هذه القوانين، لا بل ترى فيها مساً بأعراف ومقدسات حامليها

من قانون حماية الأطفال من عنف والديهم، والذي يجيز سحب الأطفال الذي أقرّه البرلمان السويدي منذ زمن طويل، إلى قانون حق التظاهر وحق التعبير عن الرأي، حتى لو وصل حد حرق رموز دينية أو مقدسة، إلى قوانين أخرى تتعلق بالزواج وحياة الأفراد، وتشكيل الأحزاب الخ، يصطدم المجتمع السويدي مع ثقافات حملها مهاجرون أو لاجئون إلى السويد، ثقافات تتعارض مع هذه القوانين، لابل ترى فيها مساً بأعراف ومقدسات حامليها.

المشكلة أن اختلاف الرأي في المجتمع السويدي لم يبقَ شأناً سويدياً داخلياً، ولم يعد متوقفا على متظاهرين استعملوا العنف للتعبير عن رأيهم، فحطموا، وحرقوا، وخرقوا القانون، بل تطوّر الأمر ليصبح ساحة لابتزاز سياسي تمارسه أطراف دولية، إذ تعالت أصوات دولية كثيرة متدخلة ومنصبة نفسها كمدافعة عن الإسلام والمسلمين في السويد، المفارقة المضحكة أن دولة من بين هذه الدول تضع مليون مسلم قيد الإقامة الجبرية، وبعبارة أدق تعتقلهم، وقامت بما يمكن اعتباره جريمة إبادة منظمة بعشرات الآلاف منهم، وما تزال تمارس بحقهم تمييزاً عنصرياً وقحاً، وهناك دول أخرى لا كرامة لمسلم أو غير مسلم فيها، دول لا حق لمواطن فيها، تضطهد مواطنيها، وتنهب اقتصادهم، وترغمهم على الهرب من القمع المتفشي فيها، لتجعل منهم لاجئين، ثم تدعي الدفاع عنهم في البلاد التي لجؤوا إليها!.

لم يعد مبرراً لأحد السكوت عن هذه المسرحية التي تُعاد دائماً، والتي يدفع ثمنها المجتمع السويدي بكل أفراده، والتي تهدد الصيغة السويدية للمواطنة ولسيادة القانون، وحرية التعبير

في التدخل السافر لجهات دولية، ثمة وجه آخر لا يقل صفاقة، هو تنطح هذه الجهات على تنصيب نفسها ناطقة باسم الجاليات اللاجئة في السويد، كأنّما أفراد هذه الجاليات لم يصبح معظمهم مواطنين سويديين، ويخضعون لقوانين السويد، والأدهى من هذا أن هذه الأطراف تُلبس أفراد هذه الجاليات موقفاً واحداً، متجاهلة أن من قاموا بكل هذا العنف رداً على حرق نسخ من القرآن الكريم، لا يمثلون إلا نسبة قليلة من الجالية الإسلامية التي ينتمون إليها، والنسبة الساحقة من هذه الجالية، ترفض تصنيفها ضمن رأي واحد، وترفض اللجوء للعنف للتعبير عن الرأي، والأهم أنها ترفض خرق القانون الذي يشكل حائط الحماية الأهم لهم كمواطنين سويديين.

لم يعد مبرراً لأحد السكوت عن هذه المسرحية التي تُعاد دائماً، والتي يدفع ثمنها المجتمع السويدي بكل أفراده، والتي تهدد الصيغة السويدية للمواطنة ولسيادة القانون، وحرية التعبير، وفي مقدمة من يتحمل المسؤولية، تأتي الأحزاب السويدية الممثلة لرأي المجتمع السويدي، التي تقف أمام خيارين فإمّا أن تتمسك بقوانينها، وبالتالي يتوجب عليها إقرار القوانين والآليات التي تحمي المجتمع من الرافضين لها بالوسائل العنفية، أو أن تقر تعديلات عليها، كضرورة تفرضها أولوية حماية المجتمع.

من جهة أخرى، فإن المسؤولية التي لا تقل أهمية عن مسؤولية الأحزاب، هي تلك التي يتحملها أفراد الجاليات الذين يُزج بهم في مواقف لا تمثلهم، ولا تعبر عن كونهم مواطنين سويديين، إذ يتوجب عليهم الدفاع عن السويد واستقرارها بوصفها وطنهم، ووطن أجيالهم القادمة، كما أن التخلي عن دورهم عبر الصمت، أو الاكتفاء بإدارة الظهر لما يحدث، هو مساهمة في استمرار استباحة غير المؤهلين، والتابعين لجهات ما لتمثيلهم، وهو مساهمة أيضاً في تعميق ثقافة الكراهية داخل المجتمع السويدي.

لم يعد الأمر مسؤولية برلمان، وأحزاب، وقوى أمن فقط، لقد أصبح الأمر مسؤولية كل مواطن سويدي يرى في السويد وطناً له، وطن ترتكز صيغته الأساسية على المواطنة والحقوق المتساوية التي يضمنها القانون والدستور، وعلى حرية الرأي والتعبير والديمقراطية، وعلى رفض العنف في العلاقة مع الاختلاف مهما تكن صوره.