السوريون وقرارات الترحيل من إسطنبول

2019.08.15 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كشفت الأحداث الأخيرة تجاه اللاجئين السوريين في مدينة إسطنبول، التي بدأت منذ شهر، عن مشكلة على مستويين: الأول يشير إلى ضعف حالة اللاجئين السوريين وهشاشة الكيانات السياسية و"المدنية" التي تشكلت زمن الثورة وعلى هامشها، بذريعة التمثيل السياسي وتقديم الخدمات، أما المستوى الثاني فيشير إلى حالة ارتباك وتردد في سياسة الحكومة التركية، تجاه السوريين الذين منحتهم الحماية المؤقتة، والأهم من الأزمة المجتمعية تحت الغطاء السياسي والإيديولوجي.

تعرض سوريون يقيمون في إسطنبول تحت بند الحماية المؤقتة، لإجراءات تعسفية تحت حجج "قانونية" تهدف إلى تسوية أوضاعهم، بحسب مصدر البطاقة أو غيابها، وذلك في أعقاب فوز ممثل حزب الشعب الجمهوري برئاسة بلدية إسطنبول، وسط حالة استقطاب سياسي ومجتمعي تجاه الوجود السوري "المؤقت"، إلا أن الجديد في الأمر هو أن القرار صادر عن حكومة العدالة والتنمية، التي أدخلت السوريين إلى الأراضي التركية، ووقفت إلى جانبهم أمام التهجمات من الأحزاب المعارضة، وذلك في مسعى لاكتساب أصوات الناخبين واسترجاع شعبية الحزب، وبخاصة في المدن الكبرى، اعتقاداً منها أنها خسرت شعبيتها بسبب "انحيازها" إلى السوريين.

والأمر الأكثر إيلاماً هو الطريقة التي تعامل بها الجهاز التنفيذي مع من "وقع" عليه أمر إنفاذ القانون هذا، بدءاً من

ما تكشفه طريقة الترحيل هذه أبعد من قرار سياسي وإجراءات، فهي تكشف عن أزمة عميقة في بنية المجتمع التركي

طريقة الاعتقال، إلى التعامل في مراكز الحجز، إلى التوقيع "الطوعي" على الترحيل، وما نتج عنه من تبعات ومشكلات اجتماعية مؤلمة، مثل ترحيل المعيل الوحيد وترك الأسرة عرضة للجوع والقهر، ناهيك عن رمي المرحّلين الشباب، في مناطق تتعرض للقصف من الروس والنظام ولا تتوفر فيها أي فرص عمل وأي إمكانات لحياة معقولة.

ما تكشفه طريقة الترحيل هذه أبعد من قرار سياسي وإجراءات، فهي تكشف عن أزمة عميقة في بنية المجتمع التركي، لدرجة تصل إلى أزمة هوية. فمنذ بداية الثورة السورية، كانت هناك مواقف مختلفة تجاهها، وتجاه السوريين الذين فروا من القتل إلى تركيا، وهو أمر طبيعي، لكن أن تكون تلك المواقف غير نابعة من مواقف سياسية فقط فهو الأمر الخطير، فكثير من هذه الأحزاب ذات القاعدة الاجتماعية العرقية والمذهبية المختلفة، ارتدّت في مواقفها إلى تلك البنى الهشة ما قبل القومية، فكان لهما مواقف سلبية تجاه السوريين، عكست مواقفهما من الرئيس أردوغان وحكومته، فكل السوريين في نظرهم محسوبون ومؤيدون لحزب العدالة والتنمية، من دون أدنى تمييز بين مواقف السوريين وظروف تهجيرهم، بل كلهم من العرب السنّة، وبالتالي هناك من المبررات ما يكفي لقواعد تلك الأحزاب للوقوف ضد السوريين.

لم يكن خافياً على أحد وقوف الأحزاب التركية المعارضة "اليسارية والعلمانية" ضد اللاجئين السوريين، وبالتالي تقاربهم من نظام بشار الأسد القاتل، فحزب الشعوب الديمقراطي، القريب من حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، وقف ضد السوريين لكونهم "عرباً"، متأثراً بالإيديولوجية التي ما تزال تروجها بعض الأحزاب الكردية الشوفينية تجاه العرب ككل، كعرق وكجماعة بشرية مسؤولة عن اضطهادهم، من دون تمييز بين العرب والأنظمة العربية التي تضطهد الجميع بما فيهم الأكراد. أما الأحزاب العلمانية واليسارية الأخرى، فلسوء حظ السوريين، لم يكونوا أفضل حالاً من مواقف اليسار العالمي والعربي تجاه السوريين، فهم لا يزالون يعتقدون أن نظام القتل الأسدي يقف في وجه الإمبريالية الأميركية وإسرائيل، وما زاد الطين بلة أن اليسار التركي يعتمد في موقفه هذا على آلية مركبة، فهم يعدّون العرب فئة دونية من جهة، ومن جهة أخرى يرون فيهم أنهم سيغيرون التوازن السكاني القائم في تركيا، لكن موقفهم في جوهره يستند إلى موقف عنصري، سواء على أساس طائفي أو "علماني" لصالح نظام بشار الأسد.

الأمر الآخر -لكنه غير المفاجئ- الموقف الذي اتخذته الهيئات السياسية السورية تجاه قضية الترحيل، حيث بعد أيام من المشكلة، وبعد اجتماع مع الحكومة التركية ممثلة بوزير الداخلية، خرج الائتلاف ليبرر الإجراءات الظالمة بحق السوريين، من دون خجل، لدرجة وصفه البعض بأنه "ائتلاف العدالة والتنمية".

من الإجحاف إنكار ما قدمته الحكومة التركية وما تحملته من أعباء جراء موقفها تجاه

تبنّت الهيئات السياسية السورية خطاب الحكومة التركية المتمثل بالدفاع عن الأمن القومي التركي والمصالح السياسية للدولة التركية مما زاد في هشاشتها وضعف تمثيلها

الثورة السورية واستقبالها لملايين اللاجئين، لكن من غير المنطقي عدم إدراك التغير في المواقف التركية الجديدة، بغض النظر عن مبرراتها وحساباتها، التي أتت ضد مصالح السوريين المقيمين في تركيا، على الأقل من ناحية إنسانية. وفي الوقت الذي تبنت فيه هيئات حقوقية ومدنية مواقف مناصرة للسوريين وضد ترحيلهم، تبنّت الهيئات السياسية السورية خطاب الحكومة التركية المتمثل بالدفاع عن الأمن القومي التركي والمصالح السياسية للدولة التركية مما زاد في هشاشتها وضعف تمثيلها، إن لم يكن قد أفقدها مصداقيتها، وكأن الثورة السورية والسوريين أداة وورقة في حسابات الدول المتصارعة على سوريا.

تقوم العلاقات السياسية بين جميع الأطراف، سواء أكانت دولاً أم جماعات، على قاعدة التوافق والاختلاف في المصالح والرؤى، وقيامها على إحدى الركيزتين فقط التوافق أو الاختلاف يعني وجود خلل كبير في تلك العلاقة، ولا يولد سوى الاستتباع أو الحروب، ومن سوء حظنا، أن "هيئاتنا" و"أصدقاءنا" اختاروا الخيار الأول، مما أفقد هيئاتنا مصداقيتها تجاه السوريين وتجاه أصدقائها، وحتى أعدائها أيضاً، كما صار يدخل الشك بالموقف من الأصدقاء.

مثلما كشفت قضية ترحيل السوريين "المخالفين" من خلال المواقف تجاهها هشاشة وهزالة الهيئات السورية، كذلك أشارت إلى مشكلة عميقة في المجتمع التركي الذي ما تزال صدوعه قائمة، ويمكن أن تظهر إلى السطح عند أي هزة سياسية كبرى، وما نتمناه ألا تتحول هذه الصدوع إلى شقوق كبرى، وخاصة وسط التصارعات الكبرى التي يمكن أن تطال الجغرافيا السياسية للمنطقة.