السوريون وتركياتهم الأربع

2019.11.10 | 19:55 دمشق

t4_3.jpg
+A
حجم الخط
-A

تختلف نظرة السوريين إلى تركيا باختلاف مواقعهم الاجتماعية – السياسية – الإيديولوجية في المجتمع السوري نفسه. ويمكن التمييز، بهذا المعنى، بين أربعة مواقع سورية تقابلها أربعة تصورات مختلفة عن تركيا ومعناها ودورها.

فبالنسبة للإسلاميين السوريين، بأعرض معاني هذا التصنيف، نرى تركيا كدولة إسلامية، بمعنى أن غالبية سكانها مسلمين، وكذلك بوصف السلطة القائمة فيها (حزب العدالة والتنمية) إسلامية الهوى، وهو ما يشكل أساس المودة الإخوانية، من بين الإسلاميين، للقيادة التركية وسياساتها تجاه الصراع في سوريا حالياً. لقد بلغ هذا "الود" لدى بعض الإخوانيين تفضيل المصلحة القومية التركية، أو ما يرونها كذلك من منظار الحكم في تركيا، على مصالح السوريين أو سوريا أو الثورة السورية، فشبه أحدهم الوضع، ذات مرة، بلحظة خطر السقوط في طائرة مدنية، حيث تقضي تعليمات السلامة المعروفة بأن يقوم الراكب البالغ باتخاذ تدابير الإنقاذ لنفسه قبل طفله الصغير، لأن محاولة إنقاذ الطفل أولاً قبل أبيه أو أمه، لن يكون مجدياً للطفل نفسه ما لم ينجُ أحد أبويه فينقذه معه. وترجمة ذلك هي أن تركيا هي الأم، وسوريا هي الطفل!

وميدانياً، بلغ الأمر بفصائل عسكرية "معارضة"، بعضها إسلامي صريح، أن تتبع كلياً القيادة التركية، فتقاتل تحت إمرتها من تعتبرهم تركيا أعداءها في سوريا، مع منع قتالها لقوات النظام أو حلفائه على الأراضي السورية، كما هي الحال في عمليات التوغل التركي الثلاث في الأراضي السورية، "درع الفرات" وعفرين وشرق الفرات. وتتلقى الفصائل المذكورة التي جمعتها أنقرة تحت مظلة سمتها "الجيش الوطني السوري" رواتب أفرادها من تركيا، ويدربها ويسلحها الجيش التركي.

وهناك، بالمقابل، علمانيون مناصرون للثورة علانيةً، ومعارضون للنظام الكيماوي بصراحة ومثابرة، لكنهم يرفضون أيضاً أعمال الإسلاميين، وبخاصة الفصائل العسكرية الجهادية، كما يناهضون السياسات التركية في سوريا

أما بالنسبة للعلمانيين السوريين، وهم لا يشكلون جماعة واحدة، وبخاصة جماعة سياسية واحدة، فهم يعرضون مواقف أكثر نقدية تجاه السياسة التركية في سوريا. ولا بد من التمييز، في داخل هذه الفئة، بين مواقف متعددة. فمنهم من يتظاهرون بتمسكهم بالعلمانية للتغطية على موقفهم العدائي من الثورة السورية بدعوى إسلاميتها، وغالباً للتغطية على تمسكهم الضمني بنظام الأسد (ولا نتحدث هنا عن القاعدة الاجتماعية المؤيدة للنظام بصورة صريحة وعدوانية). هذه الفئة تهاجم القيادة التركية وسياستها السورية بحماسة كبيرة، في انسجام تام مع موقفها المعادي للثورة السورية، ونادراً ما نسمع منهم نقداً لنظام البراميل والكيماوي وأعماله الوحشية بحق السوريين.

وهناك، بالمقابل، علمانيون مناصرون للثورة علانيةً، ومعارضون للنظام الكيماوي بصراحة ومثابرة، لكنهم يرفضون أيضاً أعمال الإسلاميين، وبخاصة الفصائل العسكرية الجهادية، كما يناهضون السياسات التركية في سوريا، وبخاصة التدخل العسكري المباشر. لنعترف أن هذه الفئة هي الأصغر حجماً والأقل فاعلية سياسية، وربما تشكل مساهماتهم في ميدان الثقافة تعويضاً عن غياب دورهم السياسي.

يمكن القول إنَّ هذه الفئة الأخيرة نفسها لديها منظورها الخاص إلى تركيا علمانية – ديموقراطية، هي نقيض تركيا الإسلامية – السلطوية كما تتجلى في الحكم الحالي. ومع استبعاد التيار العلماني التركي الرئيسي المتمثل في حزب الشعب الجمهوري وأشباهه، عن الصورة التي ترغب هذه الفئة السورية أن ترى تركيا عليها، بسبب مواقف التيار المذكور المناهضة للثورة السورية والودودة تجاه نظام الأسد، لا يبقى في يدها غير مجموعات صغيرة مبعثرة من بقايا يساريين ديموقراطيين في تركيا، لا وزن لهم في المعادلات السياسية التركية.

سنرى، هنا أيضاً، غلبة النشاط الثقافي – الاجتماعي على الفاعلية السياسية، كما هي حال السوريين الديموقراطيين العلمانيين. ثمة انسجام معقول بين المجموعتين السورية والتركية، في مستويات الفكر والنشاط والميول الإيديولوجية، تسمح بتعاون محدود، شكلت تجربة مجموعة "هامش" الثقافية في اسطنبول نموذجها الأبرز. وقد انتهت هذه التجربة، كما نعرف، قبل عامين، لأسباب تخص ظروف بعض القائمين عليها، لا بسبب انتفاء الحاجة إلى أنشطتها.

وهذا ما يقودنا إلى "تركيا الكردية" أي تركيا كما يراها الكرد السوريون. عموماً يمكن الحديث عن موقف غير ودود تجاه تركيا وسياساتها، متشكك دائماً، عدائي غالباً

ولا بد من الإشارة، أخيراً، إلى نقطة تقع خارج الانسجام المذكور بين المجموعتين السورية والتركية، بل تشكل موضوع خلاف لا يبرز غالباً على السطح، هو الموقف من المسألة الكردية. فالعلمانيون الديموقراطيون الأتراك يتعاطفون مع الكرد وقضاياهم بلا قيد أو شرط، تقريباً تعاطفاً غير نقدي، في حين لدى العلمانيين الثوريين السوريين مواقف تتباين من شخص إلى آخر من المشكلة الكردية في سوريا، تتراوح بين تعاطف محدود ومشروط وعداء صريح أو ضمني، أو مواقف مشروطة بظروفها المتغيرة.

وهذا ما يقودنا إلى "تركيا الكردية" أي تركيا كما يراها الكرد السوريون. عموماً يمكن الحديث عن موقف غير ودود تجاه تركيا وسياساتها، متشكك دائماً، عدائي غالباً، وبخاصة كردة فعل أمام التعديات التركية على البيئات الكردية سواء في تركيا نفسها أو في سوريا والعراق. ولا يتعلق الأمر فقط بحزب العمال الكردستاني وفرعه السوري أو مناصريه، بل بالكرد ككل، سياسيين ومثقفين وسكاناً.

هناك استثناء واحد يتعلق بممثلي "المجلس الوطني الكردي" المشاركين في "ائتلاف قوى المعارضة والثورة". فهؤلاء يتبعون السياسة التركية اتباع "الائتلاف" نفسه. وإن كان موقفهم هذا لا يعدو النفاق السياسي المكشوف. وهم يعرفون افتقاد موقفهم لأي شعبية بين كرد سوريا، ويعملون على تبرير ذلك بالهجوم على حزب الاتحاد الديموقراطي وممارساته، وكأن خصومتهم مع هذا الحزب تبرر تبعيتهم للحكم في تركيا.

أربع "تركيات" في أنظار السوريين: تركيا الإسلامية، تركيا العلمانية، تركيا الديموقراطية، وتركيا الكردية، تكاد لا تتقاطع في شيء، ناهيكم عن التطابق. هذه اللوحة التركية الرباعية تعكس الانقسامات السورية انعكاس الأشياء في المرآة.