السوريون والأخلاق السياسية

2021.11.23 | 05:23 دمشق

leaders.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد ما حصل للسوريين من تدمير وتهجير في السنوات الأخيرة انتشرت بينهم مجموعة من الأفكار عن السياسة والأخلاق مفادها أن لا علاقة بينهما، وأن الأخلاق في وادٍ والسياسة في وادٍ آخر. وبسبب تركهم وحدهم يواجهون مصيرهم، وتراجع حتى مستوى التعاطف مع قضيتهم، أخذوا ينظرون إلى أي حديث يعلي من أهمية الأخلاق في السياسة على أنه كلام غير جدّي، ومجرد "طق حنك"، وأكبر دليل على ذلك أوضاعهم التي يعيشونها.

هذا المقال يجادل، من واقع علم اجتماع السياسة والتاريخ السياسي الحديث، أن للأخلاق دوراً أساسياً في الحياة السياسية للشعوب، وأنه ليس من الحكمة الفصل بين الاعتبارات الأخلاقية والمشاغل السياسية، وأن تاريخ شعوب كثيرة يبين أن أخلاقها السياسية لها دور كبير في تقدمها وقوتها، حتى وإن كانت العلاقة بين الأمم لا تقوم على الأخلاق، فكيف ذلك؟ 

هذه هي الأخلاق التي تنتج الفقر كما تبدت لبانفيلد: غياب روح المسؤولية، الازدواجية الأخلاقية والأنانية. أما نتائجها فهي تفشي الروح السلبية والقدرية السوداوية

يبين عالم الاجتماع الأميركي إدوارد بانفيلد في كتابه "الأساس الأخلاقي لمجتمع متخلف"، وهو كتاب درس فيه أسباب فقر قرية إيطالية، أن سكان القرية لا يساعدون بعضهم البعض، بعكس القرى المجاورة، وأن الرجال يفضّلون الجلوس في المقاهي على العمل، وأن النساء لا يساعدن الأطفال في دور الأيتام. مثلما وجد أن رجال القرية الذين يسافرون إلى أميركا (الخليج العربي بالنسبة للأوروبيين آنذاك) لا يساعدون أبناء قريتهم على إيجاد عمل هناك. والغريب في الأمر أن بانفيلد وجد أنه وعلى الرغم من أنانية سكان القرية، وغياب التراحم بينهم، إلا أن العائلات تقوم برعاية أولادها بشكل كامل، وتدللهم ولا تنهرهم عن مخالفاتهم في الشارع، مثلما أنهم لا يلتزمون بنظام أخلاقي واضح في التربية.

باختصار هذه هي الأخلاق التي تنتج الفقر كما تبدت لبانفيلد: غياب روح المسؤولية، الازدواجية الأخلاقية والأنانية. أما نتائجها فهي تفشي الروح السلبية والقدرية السوداوية Melancholy Fatalism التي تفقد الأفراد ثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على التأثير.

طبعا هناك عدد لا يستهان به من المفكرين وعلماء الاجتماع ممن يعطي دوراً مهماً للأخلاق في السياسة، وفي ارتقاء الشعوب وتقدمها. حيث نجد ماكس فيبر الذي أعطى دورا أساسيا للأخلاق البروتستانتية في نشوء الرأسمالية، وجاك ماريتان الذي بين الأفكار السياسية التي تبقى وتنتشر هي الأفكار التي تحمل مضمونا أخلاقيا. بالإضافة إلى عدد كبير من مفكري ما بعد الحداثة الذين يفسرون تراجع العدل والمساواة في العالم بالعودة إلى تراجع "روح التضامن" وتفشي الأنانية والفردية المفرطة بين الناس، ومنهم على سبيل المثال إدغار موران والكانطيون الجدد الذين يذكرونا بشكل دائم بضرورة الانتباه إلى الأساس الأخلاقي للسياسة.   

بالعودة إلى السوريين يمكن القول إن النظام الاستبدادي الذي عانوا في كنفهه لقرابة نصف قرن من الزمان فرض عليهم التفكير بشكل فردي وليس جماعي، وأجبرهم على الاعتقاد بأن مصالح الفرد في وادٍ ومصالح المجتمع في وادٍ آخر، مثلما أجبرهم على ترك التفكير بالمجال العام والقيم العليا الأمر الذي جعلهم ينغلقون على العائلة والمصالح الشخصية. ثم أتت مرحلة الثورة لتضيف صدمة جديدة تمثلت بعدم تعامل الأطراف الدولية مع قضيتهم بمعايير أخلاقية أو إنسانية.

أخلاق التعاون والمسؤولية تأتي من شعور الفرد بأنه جزء من المجتمع وبأن المجتمع جزء منه في النهاية، وهذا شعور يضعف كثيرا في ظل الاستبداد. من مساوئ الاستبداد الكثيرة أنه كثيرا ما يجبر الناس أيضا على الفصل بين المبادئ الأخلاقية والسلوك الأخلاقي، بحيث لم يعد الكثير منّا يجد حرجا في الحديث عن مبادئ أخلاقية عليا، والسلوك بعكسها بنفس الوقت، بحجة تعقد أوضاع الحياة وصعوباتها. حتى يمكننا المخاطرة بالقول إن إكثار المرء من الحديث عن الأخلاق، في غالب الأحيان، ليس إلا طريقة يلجأ إليها للتغطية على سلوكه غير الأخلاقي. وهذا يعني أن للأخلاق معنيين مختلفين، وإن كانا مرتبطين من زاوية أخرى، ألا وهما المبادئ، التي يمكن أن تكون فلسفية أو دينية، والسلوكيات الأخلاقية التي تعبر عن واقع حال المرء في حياته الاجتماعية. يذكر أن القرآن الكريم شن هجوما قاسيا على الذين يعانون من ازدواجية المبادئ والسلوك. طبعا الجميع يتكلم وكان تلك الازدواجية تعني غيره ولا تعنيه.

أوهن النظام الأسدي إرادة السوريين، وكما هو معروف في الفلسفة فإن الإرادة هي أم الأخلاق. مثلما أنزل من قيمة العمل من أجل الجماعة عبر نشر الفساد والمحسوبيات، والعمل عند الأخلاقيين هو الوسيلة الرئيسية للتعبير عن أخلاقهم. 

المتتبع للفلسفة السياسية اليوم يجد أنه ليس من هم لها سوى تكثيف جهودها لتدعم "القيم العليا" في المجتمعات الحديثة، إيمانا منها بأن العالم من دون أخلاق عليا مهدد بالحروب والصراعات إلى ما لا نهاية

لا شك في أن الظرفية والآنية التي ينظر من خلالها السوريون إلى أوضاعهم تولد نوعا من التشويش، وتجعل من المثل العليا مجرد كلام ليس بذي قيمة، مع العلم أن فلسفات التاريخ والسياسة تبين أن كل الحضارات والقوى الكبرى العالمية من اليابان إلى أوروبا وأميركا تشترك، على الرغم من اختلاف الإيديولوجيات والظروف، في وجود أخلاق سياسية: قومية أو وطنية أو دينية لدى شعوبها، تقوم على التعاون والإيمان بالكل الاجتماعي، وأن غياب مثل تلك الأخلاق هو ما يسهل فساد المجتمع ووقوعه فريسة للتسلط والضياع. حتى إن المتتبع للفلسفة السياسية اليوم يجد أنه ليس من هم لها سوى تكثيف جهودها لتدعم "القيم العليا" في المجتمعات الحديثة، إيمانا منها بأن العالم من دون أخلاق عليا مهدد بالحروب والصراعات إلى ما لا نهاية.

النقطة التي تهم السوريين – هنا- أنهم يشبهون سكان القرية الإيطالية التي ذكرناها في بداية المقال، عليهم أن يفكروا في إصلاح أخلاقهم السياسية وإعطاء التعاون دورا أكبر في حياتهم، ومنح مجتمعهم دورا أساسيا في تفكيرهم والاهتمام بالسلوكيات الأخلاقية أكثر من المبادئ، والتعود على الثقة بالآخرين كما يثقوا بأنفسهم، الثقة التي دمرها النظام الأسدي داخلهم عن طريق أسلوب "الإدارة بالخوف".