السوريون بين كفّي كماشة

2021.08.16 | 06:04 دمشق

3570700b-5256-456d-917d-af77f69d089b.jpeg
+A
حجم الخط
-A

لا البحر من أمامنا ولا العدو من ورائنا، أصبحنا عالقين في منتصف الطريق وفي منتصف الحلم وفي منتصف الحكايات التي لا نستطيع تغيير البدايات فيها أو التحكم بتطور أحداثها.

ضاقت بنا الأرض حتى لفظتنا وحرمتنا من شواهد قبور يبكينا قربها أحباؤنا، أولئك الذين لم تعد الأرض تتسع لموطئ أقدامهم أيضاً.

أسوأ ما اعتقده الإنسان بخصوص تكوينه أنه وضع نفسه خليفة لله في الأرض، فبدأ يمنح قرابين غفران أو يمنعها واستأثر بسلطة قبول أخيه الإنسان أو رفضه، معتقداً أنه يملك ذلك الحق بشكل فطري.

لم يكن ذنب السوري أن اضطر إلى اللجوء والبحث عن قارب نجاة مدفوعاً بغريزة البقاء، حتى إن ذلك أمر يحسب له لا عليه، لأنه يثبت أن السوريين من الشعوب الحية التي تتمسك بشكل الحياة ومضمونها وتبحث عن متنفس لها أو طوق نجاة كي تبقى على قيد الحياة.

غير أن الشعوب الأخرى اعتقدت أن في ذلك انتقاصاً من قيمة السوريين وقدرهم، ذلك أنهم تركوا وطنهم وكانوا أجبن من الدفاع عنه أو حمايته، متناسين أن ما سموه وطناً للسوريين أصبح ملعباً لأيادي الدول كلها، تعبث فيه مثلما يحلو لها وتحاول اقتطاع حصتها من كعكته.

منذ مدة طويلة بدأ ينتابني شعور بالغثيان من فكرة القومية والانتماء لأنها لم تفعل شيئاً سوى أنها ضاعفت مشاعر العداء والعنصرية بين الشعوب، وذلك بترسيخها فكرة الفوقية عن طريق العرق أو اللون أو الجنس، فهل كان الانتماء فعلاً شيئاً سيئاً فكنا دمى لأيديولوجيات استخدمتها أنظمة الحكم وأصحاب السلطة بهدف تمرير خططهم باستئثار السلطة وتغييب الشعوب، أم إننا بفطرتنا الحقيقية كنا أشراراً نرفض الآخر ولا نسمح باقتسام قطعة الأرض أو لقمة العيش بين الإنسان وأخيه الإنسان.

لا يمكن أن يكون الرفض والعنصرية أمراً عادياً وقابلاً للحدوث بهذه الكثرة والوتيرة، ومن غير الطبيعي أن ترفض الشعوب الآمنة والمستقرة لجوء الإنسان الهارب من آلة الموت إليها، وربما يحتاج ذلك إلى بحث مطول وإعادة النظر بأصل الإنسان وهويته وتركيبته وجيناته، أو ربما بقيمه القديمة وميوله الشريرة والخيّرة من جديد.

في بداية تكون التجمعات البشرية لم تكن هذه الأرض أو تلك ملكاً لأحد، بل كانت كل مجموعة تجد لنفسها مكاناً تستقر فيها بناء على معطيات كثيرة خاصة بأهداف هذا التجمع أو ذاك، لكن هل كان يعني ذلك أنها بذلك منحت نفسها ملكية تلك الأرض بحدودها وثرواتها وما شابه؟ أو أن ذلك يعني أن أبناء كل دولة مستحدثة يتمتعون بعرق صاف، ما يمنحهم رخصة لمنع الآخر من دخول عالمهم وكنتوناتهم التي خلقوها وحصنوها ضد الغرباء.

تثبت التجربة أن طبيعة الجنس البشري قائمة على العنصرية والإقصاء حتى بين أبناء الشعب الواحد، ففي سوريا نفسها يشعر أبناء المدن بالتفوق على أبناء الريف، ويشعر أصحاب البشرة البيضاء بالتفوق تجاه الملونين أو من يتمتعون ببشرة سمراء، وكنا نعاني من عنصرية دول الجوار تجاهنا فيما نمارس عنصرية مضادة تجاه شعوب أقل ثقافة أو أقل غنى اقتصادياً وثقافياً.

ربما يكون لذلك أسباب عدة يبرع في قراءتها المحللون النفسيون ويرجعون أسبابها إلى استمرار حلقات الاضطهاد والقهر بحيث يفرغ كل منا غضبه في الطرف الأقل قوة منه أو يمارس ضده عنفاً أو اضطهاداً بمختلف الأشكال، لكن ذلك يعيدنا إلى السؤال الفلسفي الأول الذي كان منبع دراسة علم النفس ما هي فطرة الإنسان؟ خيرة أم شريرة؟

سؤال وجودي بسيط، لكنه قد يجعلنا ننطلق منه إلى إجابات مختلفة حول كثير من المشكلات التي تعاني منها المجتمعات التي تظهر فيها أحداث عنف أو عدم مساواة بين الناس، أو تتضح فيها سلوكات وقوانين تمييزية بناء على الدين أو اللون أو العرق.

ليست المرة الأولى التي يواجه السوريين مثلُ هذا المنعطف، ولن تكون الأخيرة، كما أن مثل هذه الأحداث ليست حكراً على شعوب بعينها، إذ لم تعد كثير من شعوب العالم تشعر بالخجل من هذه الممارسات وبات من الطبيعي المجاهرة برفض الآخر وعدم تقبل وجوده، لكن ذلك مع الأسف لم يمنحنا فرصة لإعادة النظر في قيمنا الإنسانية ولم يؤثر فينا بأن نستخلص درساً مما يحصل معنا لنشعر بمغبة الظلم الذي كنا نمارسه مثلما مورس ضدنا.

وفي الأحوال كلها فإن أي شعب في العالم مهما بلغت عنصريته ومغالاته في الشعور بالانتماء القومي، لا يستحق أن يعاني ولو جزءا ضئيلا مما يحصل مع السوريين اليوم في بلادهم أو في بلدان لجوئهم أو ما قد يحصل، ذلك أن الزمان جار عليهم وجعلهم يختبرون من الذل أسوأه ومن المر علقمه.