في ظل تداعي الأوضاع في الساحل السوري وحمص وريف حماة، وخروج أصوات من داخل الطائفة العلوية تدعو للتدخل الخارجي والوصاية الأجنبية، من الضروري لفت النظر في هذه الفترة الحرجة إلى تشابه هذه الأصوات مع أصوات لطالما علت من الطائفة للحماية خوفًا من الغالبية السنية في البلد. وللحديث بشكل شفاف عن الأسباب الحقيقية وراءها، يجب فهم أن خوفًا غريزيًا يتشبَّع به أبناء الطائفة منذ الصغر.
تاريخ الطائفة العلوية في سوريا يعود إلى القرن العاشر الميلادي مع الدولة الحمدانية وهجرة الإمام الخصيبي إلى سوريا من العراق. الكثير من الباحثين اهتموا عبر الزمن بتاريخ هذه الطائفة، حيث يعتبرونها من الطوائف ذات العصبية القوية في التاريخ المعاصر. وبالرغم من خروج العديد منهم من موطنهم التاريخي في جبال الساحل في أوائل القرن الماضي، فإن تاريخهم المشترك الناتج عن ماضي طويل من الوجود المنحصر في منطقة جغرافية واحدة كوَّن لهم ضميرًا مشتركًا يرتبط به معظم أبناء الطائفة ويقود تحركاتهم كمجتمع عبر الزمن.
هذا الماضي يُنسَج كقصة واحدة يحكيها الكبار للصغار، وهي قصة استبداد واضطهاد طائفي من قبل الغالبية السنية في سوريا. هذا الاضطهاد في رأيهم يدفعه عقلية متشددة ترفض العلويين كمسلمين وتريد القصاص منهم بسبب خروجهم عن الإسلام. الكثير من الأمثلة التاريخية التي تصب في هذه الرواية يُستشهد بها، من قتل السلاجقة والمماليك لهم وحرق أراضيهم، حتى فتوى ابن تيمية في عام 1317 ميلادية ضدهم، التي تعتبر مفصلًا تاريخيًا في حياة الطائفة العلوية، إذ اتجهوا بعدها إلى الباطنية والسرية التامة في ممارسة دينهم خوفًا من الاضطهاد.
البعد السياسي وليس الديني للاضطهاد:
تظهر قراءة تاريخية لتاريخ العلويين في سياق عام مرتبط بأحوال البلد في الفترات التي جرت فيها هذه الحوادث البعد السياسي لها. فالسلاجقة اضطهدوا العلويين بعد وقوف بعضهم في جانب أعدائهم البيزنطيين في اللاذقية. والمماليك عانوا من هجمات الصليبيين واحتضان العلويين لهم في جبالهم لوقت طويل، مما أدى في فترة غزو المغول لدولة المماليك إلى زيادة الضغط على المماليك وقيامهم بإرسال بعثات عسكرية للعلويين لقمعهم وإعادتهم إلى سلطة الدولة. وفي نفس السياق، أصدر ابن تيمية فتواه الشهيرة ضد العلويين، والتي كانت تشمل أيضًا طائفة الموحدين الدروز، والتي أعطت بعدًا شرعيًا لحملة المماليك. وكانت الفتاوى سائدة في حملات السلطة والحكام في دمشق عموما لشرعنة التحركات العسكرية والسياسية. وحتى الحملات العسكرية التي شنها العثمانيون ضد العلويين في مطلع القرن السادس عشر، كانت جزءًا من حملة أوسع استهدفت العديد من الجماعات الشيعية في سوريا، وذلك بسبب مخاوف العثمانيين من احتمال تعاون هذه الجماعات مع الدولة الصفوية الشيعية، التي كانت تخوض حربًا طويلة مع العثمانيين آنذاك.
هذه القراءة لا تنكر تاريخ الاضطهاد الطويل في سوريا في حق العلويين، ولا تصب في مصلحة تخوينهم أو اتهامهم بالاصطفاف مع جهة ضد أخرى، فتاريخ بلد الشام كثيف ومتشعب وكثرت الممالك والإمبراطوريات التي مرت من هنا، وكل واحدة عملت لتضمن استقرارها وبقاءها. لكن الهدف الرئيسي هو إبراز البعد السياسي لكل من هذه الحوادث المؤسفة وضرورة فهمها في هذا السياق، وليس تصويرها كنتاج عصبية دينية تكفيرية ضد أبناء الطائفة يقود إلى تعميم خاطئ بحق أي سلطة مسلمة سنية تحاول أن تقود البلد وبحق طيف كبير من السوريين.
العلويون تحت الانتداب الفرنسي:
بعد الخروج من سلطة العثمانيين، وجد بعض العلويين في الانتداب الفرنسي فرصة للخروج من عزلتهم في الجبال الساحلية، والعديد منهم انخرطوا كضباط في الجيش الفرنسي الوطني آنذاك في أوائل العشرينيات، وهذا الجيش شكَّل نواة الجيش السوري بعد الاستقلال. لذلك نرى لاحقًا أثر الضباط العلويين في الجيش السوري، حيث أن كبار الضباط كحافظ الأسد ومحمد عمران وصلاح جديد استطاعوا الانقلاب على الحكومة السورية لاحقًا. هذا الاقتراب من الفرنسيين أحد أسبابه وجود تيار فكري انفصالي في ربوع الطائفة العلوية يجد بعض جذوره في الخوف الذي تحدثنا عنه، وحاولت الطبقة الوطنية السنية في بلد الشام آنذاك محاربته، وهذا كان من أسباب فتوى الشيخ أمين الحسيني في عام 1936 بأن العلويين مسلمون، وذلك لاستدراجهم إلى صفوف الوطنيين الذين كانوا يحاربون الانتداب وللتخفيف من التقسيمات الطائفية التي استغلها الفرنسيون للبقاء في سوريا.
لكن التيار الانفصالي كان في أوجه في ذلك الحين، حيث كتب الشاعر محمد سليمان الأحمد المعروف ببدوي الجبل في رسالة إلى ليون بلوم وزير الخارجية الفرنسي في عام 1936 يحثه فيها على عدم توحيد سوريا وإعطاء العلويين في جبال الساحل استقلالهم في حال انتهاء الانتداب:
“إن روح الكراهية والتعصب التي تسكن قلوب المسلمين العرب ضد كل من هو غير مسلم، هي الروح التي يغذيها الدين دائمًا، فلا أمل في تطورها. ومن هنا فإن القليات في سورية، في حالة إلغاء الانتداب، سوف تتعرض لخطر الموت والإبادة، بغض النظر عن أن ذلك من شأنه أن يضع حدًا لحرية الفكر والاعتقاد.”
وهذا يعود ليشير إلى الاعتقاد السائد لدى ثلة من العلويين أن هناك كراهية لدى الغالبية السنية ضدهم كطائفة دينية، وأنه سيتم قتلهم عن بكرة أبيهم في حال غياب وصاية دولية أو في حال استلم المسلمون السنة السلطة في دمشق.
الخروج من هذا الاعتقاد والانخراط في سوريا الجديدة:
يظن العديد في سوريا أن العلويين تمتعوا في ظل آل الأسد بالكثير من الفوائد لكونهم من أبناء الطائفة التي تنتمي لها عائلة الأسد، والأمثلة على الخطأ في هذا الاعتقاد كثيرة جدًا. لكن وجود آل الأسد في سدة الحكم أعطاهم أمانًا لممارسة حرياتهم دون الخوف من الاضطهاد، وقد عوَّل النظام في العديد من المرات على خوفهم القديم في اجتذابهم إلى صفه مما أدى لسقوط عشرات الآلاف من الضحايا من أبناء الطائفة دفاعًا عنه.
والآن، في غياب هذا النظام نجد الخوف الغريزي عند بعض العلويين يتصاعد من جديد، وصولًا إلى محاولة تصوير ما يحدث من تجاوزات على أنه سياسة ممنهجة لقتلهم، وهذا مع اعترافهم بأن معركة تحرير سوريا غلب عليها العفو، مما سهل على الثوار الدخول إلى الدون دون مقاومة تُذكر.
وأخيرًا، أتمنى أن يخرج أبناء الطائفة من قوقعة الخوف الزائدة وأن يتبنوا الثورة السورية بالكامل، وبهذا لا أقصد حكومة الإنقاذ في دمشق، بل الحراك الثوري بكل أطيافه الذي كلَّله إسقاط النظام السابق، والانخراط في الحوار الوطني الذي يحدث حاليًا بشكل غير مؤطر والذي ينتظر العديدون تأطيره قريبًا. وأن يتركوا مطالب العفو العام غير المقبولة من أي طرف، وأن ينأوا بأنفسهم عن التحدثيات المشبوهة باسمهم، فلأن الكثيرين منهم لديهم أسباب مخفية لفشل محاولات قيام سوريا الجديدة خوفًا من الحسابات لهم أو لقربائهم. وأخيرًا، أن يعطوا أولوية واضحة لا شك فيها لوطنيتهم ولانتمائهم لسوريا قبل انتمائهم الديني الطائفي، فسوريا الآن تشهد حرية سياسية كانت غائبة لأكثر من 60 عامًا، وهي فرصة تاريخية لبلورة أفكارهم السياسية، والعمل مع أبناء بلدهم، والمشاركة في المهمة الصعبة للغاية وهي بناء سوريا ما بعد الأسد.
المصادر:
[1] القليات في السلطة: العلويون السوريون، كتاب: الدور السياسي للقليات في الشرق الأوسط، تأليف بيتر غوبسر.
[2] دائرة الخوف: العلويون السوريون في الحرب والسلم، ليون ت. غولدسميث.
[3] Talhamy, Y. (2010). The Fatwas and the Nusayri/Alawis of Syria. Middle Eastern Studies.
[4] هناك اعتقاد سائد أن خمسة من قادة الطائفة وقعوا هذه الرسالة ولكن تبين لاحقًا أن الوثيقة الحقيقية المحفوظة في الأرشيفات الفرنسية تم إرسالها من قبل بدوي الجبل فقط، والتواقيع الباقية تم تزويرها في ثمانينيات القرن الماضي في كتاب كتبه موسى أبو الحريري وهو اسم مستعار لجوزيف قزي.
[5] The separatist Alawi petition to the French Prime Minister Léon Blum (1936): reliability, background and aftermath.
[6] The Politics of Sectarian Insecurity: Alawite 'Asabiyya and the Rise and Decline of the Asad Dynasty of Syria.