السلطة واللغة والثورة

2021.07.25 | 06:52 دمشق

plpo-bshar-alasd-yqhqh-allght-alrbyt-b-780x405.jpg
+A
حجم الخط
-A

يحسب للفلسفة المعاصرة توكيدها المتكرر على أن العنف المادي ليس هو الأداة الوحيدة التي تلجأ إليها السلطة لإخضاع محكوميها، فقد أماطت فلسفات ما بعد الحداثة اللثام عن الطرق التي توظف من خلالها السلطة كل ما لديها من أدوات ووسائل للمحافظة على الوضع الاجتماعي القائم، وأبانت الأبحاث المتصلة بالعنف الرمزي عن الوظيفة التي تؤديها اللغة في تثبيت علاقات السلطة، وكشفت عن الروابط الوثيقة بين استعمال اللغة، والتراتب الاجتماعي القائم.

أدركت السلطة في عالمنا العربي للحيز الواسع الذي تحتله اللغة في الوجدان العربي، ولأهميتها في تشكيل المخيال الجمعي

بالرغم من الحديث المتكرر عن دخولنا عالم ما بعد الحداثة، وأن الصور البصرية التي نشاهدها في التلفاز، وفي وسائل الإعلام الأخرى، أزاحت إلى حد كبير اللغة، فإن الوعي الجمعي العربي مازال يعلي من شأن العربية الفصحى، ويرفع حاملها إلى مستوى أعلى من مستوى الآخرين الذين لا يجيدونها. فنحن ننتمي إلى حضارة تتكئ على موروث لغوي، تشكل اللغة الصافية (الفصحى) حجر الزاوية فيه، فيبدو حامل اللغة الفصحى (متكلمها) تذكيرا أو استمرارا لهذا الماضي الذي تريد الذات الجمعية استعادته.

استنادا إلى هذه الحقيقة، أدركت السلطة في عالمنا العربي للحيز الواسع الذي تحتله اللغة في الوجدان العربي، ولأهميتها في تشكيل المخيال الجمعي، وفي تكريس علاقات السلطة، وهذا ما يفسر العناية التي يوليها النظام السوري للغة العربية، وإصرار مسؤوليه وإعلامييه على الحديث بالعربية الفصحى أمام وسائل الإعلام، على نحو يصيب متابع الإعلام السوري بالدهشة. قد يُفسر جزء من هذا الاهتمام بالعوامل الأساسية التي أدت إلى نشوء الدولة السورية، وخصوصا أن مسألة اللغة العربية، في مواجهة قضية التتريك، هي التي أسفرت في النهاية عن تنامي الوعي القومي العربي، وكان لها أثر لا ينكر في نشوء الدولة السورية. لكن النظام لم يكن حريصا على قضايا أهم، إذ أثبت قبل الثورة، وفي محطات متعددة، أن الخطاب القومي قشرة رقيقة يستر بها طائفيته الفجة، وهوسه بالبقاء في السلطة والخلود فيها.

ولم يقف أمر العناية باللغة العربية على حرص المسؤولين السوريين، بمختلف درجاتهم في السلم الوظيفي، على الحديث بالفصحى فحسب، بل تعداه إلى الهوس بصيانة السلوك اللغوي. والتشريعات والقوانين التي صدرت بهذا الخصوص كثيرة، ففي عام 2007، مثلا، أصدر رئيس النظام مرسوما يقضي بتأسيس لجنة "تمكين اللغة العربية"، بهدف "الحفاظ عليها، والاهتمام بإتقانها، والارتقاء بها".

كيف يمكن تفسير هذا الهوس اللغوي؟ إن سوريا لا تعاني مشكلة لغوية، على غرار بلدان أخرى كالجزائر بعد استقلالها، فقد ترسخت اللغة العربية حتى بين السوريين الشركس والأكراد والتركمان وغيرهم من القوميات التي تعربت كليا أو جزئيا. ربما يمكن تفسر تدخل النظام لضمان سلامة السلوك اللغوي بمظاهر الانفلات اللغوي التي طغت مع تطبيق السياسات النيوليبرالية، وظهور طبقة طفيلية جديدة قائمة على الاستهلاك، بحيث بدأت تنتشر الأسماء الأجنبية، ومعها أسماء المحلات، والمواد المستوردة. لكن هذا تعليل يعجز عن الوصول إلى جوهر القضية.  فالعناية باللغة تبدو جزءا من منظومة ثقافية-سياسية أشمل، تحاول تحديد السلوك القويم. فما يهدف إليه النظام من خلال تلك التشريعات والقوانين أن يعيد المجال القانوني إنتاج السلطة الرمزية والمحافظة عليها. لهذا من الضروري النظر إلى علاقة النظام باللغة العربية، من زاوية حرصه على الاستمرار في السلطة قبل أي هم إيديولوجي آخر.

يسعى النظام بهذا الإصرار على اللغة الفصحى إلى تكريس صورة مثالية، صورة السلطة التي لا يستطيع العامة الوصول إليها. فالإصرار على الحديث بالفصحى يزرع في وعي المواطن وجود هوة بينه وبين النظام.  وقد كرس هذا في نفوس المواطنين رغبة في التماهي مع السلطة وخطابها، فقد كان من الطبيعي جدا أن تجد مواطنا سوريا: فلاحا أو بائعا أو عاملا بسيطا، يحاول الكلام أمام الإعلام باللغة الفصحى. فالمتكلم هنا يتخلى عن ذاته، محاولا قدر الإمكان أن يتماثل مع الصورة المثالية للنظام. ويتضح هذا الطابع السلطوي للغة أنه، حين أراد النظام الإيحاء بالاقتراب من المواطنين، والحديث باللغة العامية، فإن خطابه جاء مثقلا بعلاقات السلطة. فالشعار الشهير "منحبك" الذي أطلقه النظام جاء بلهجة السلطة نفسها، بدلا من أين يكون "بنحبك" الذي يستعمله السوريون معظمهم.

ولعل مراقبة السلوك اللغوي للأنظمة العربية تظهر تلازما ملحوظا بين عنف النظام وتقعر اللغة في إعلامه ولدى مسؤوليه. لنتذكر في هذا الصدد البيانات التي كانت تصدر من النظام العراقي السابق، فقد كانت مصوغة بلغة تنتمي إلى معجم يسرف في استعمال الألفاظ القديمة المهجورة، والكلمات المحملة برمزية عالية، تؤسس برزخا حادا لا بين النظام الذي يمثل الحق، والعدو الذي يمثل الشر المطلق، ولكن بين النظام وعموم الناس الذين ربما لا يفهمون معاني الكثير من المفردات المستعملة.

لم يقتصر استثمار اللغة على النظام وحده، فقد أتاح وجود حركات إسلامية متعددة على الساحة السورية في العقد الماضي معاينة استعمال اللغة لدى تلك الحركات على أرض الواقع، والخلاصة أن توظيف اللغة عند الحركات الإسلامية المتشددة لا يؤشر إلى اختلاف جوهري عن وظيفتها لدى النظام، أي: تكريس التعارض بين المرسل والمتلقي، فتقعر زعماء تلك الحركات والناطقين باسمها لا ينبع من طبيعة المفاهيم والمقولات التي ينطلقون منها فحسب، ولكنه نابع أيضا من الرغبة في تكريس التراتب بينهم وبين بقية الناس، فهم وحدهم من يترفعون عن الآخرين الذين يبدون أقل أهمية وأكثر جهلا بالدين ومقاصده، إذ لا سبيل إلى فهم الدين إلا من خلال اللغة التي يجهلها العامة. بهذه الطريقة يؤسس الركون إلى اللغة المهجورة فجوة كبيرة، هي المسافة التي يراد تثبيتها بين الحاكم والمحكوم.

تدمر الدكتاتورية كل ما هو أصيل، فحتى استعمال الفصحى في الكلام استثمره النظام على نحو يكرس فيه سلطته، وتعاليه على المحكومين

مع بداية الثورة، أدى اختلال علاقات السلطة إلى تغير واضح في نظام الخطاب اللغوي، فسلطة اللغة التي كرسها النظام، والتي كانت تهدف إلى الحفاظ على التراتبية الاجتماعية القائمة، اهتزت، وحدث ما يطلق عليه هابرماس "انعطافا جذريا في الحيز العام"، حققه الشباب الثائر حين كسر احتكار النظام للمجال العام، عبر خلق لغة جديدة، تغاير كليا اللغة المتخشبة التي تحاول إضفاء بعد ديني على الأحداث السياسية: ثورة الثامن من آذار المباركة، الحركة التصحيحية المجيدة...إلخ. ولهذا رأينا إصرار الشباب على الحديث بالعامية في وسائل الإعلام أحيانا، وعلى كتابة المنشورات بالعامية أحيانا أخرى. كان هذا التحول نابعا من وعي عميق باختلاف في بنية الخطابين، خطاب يسعى لتأبيد السلطة، وخطاب آخر يناضل لإحداث تغيير فيها. وهو تغير سرعان ما حاولت السلطة مجاراته، فقد بدأ إعلاميوها والناطقون باسمها الحديث بالعامية في كثير من الأحيان، بسبب الانعطاف في المجال العام الذي أشرنا إليه.

تدمر الدكتاتورية كل ما هو أصيل، فحتى استعمال الفصحى في الكلام استثمره النظام على نحو يكرس فيه سلطته، وتعاليه على المحكومين، بحيث يشعرهم بالفارق النوعي حتى في واحدة من أهم مجالات فخرهم: اللغة العربية الفصحى.