icon
التغطية الحية

السلطة وأدلجة مسرحيات فرقة "المهندسين المتحدين" في سوريا

2022.09.27 | 07:37 دمشق

مسرحية
+A
حجم الخط
-A

ظهرت فرقة جمعية المهندسين المسرحية في بداية تسعينيات القرن الماضي، وتشكَّلت من تجمُّع  عددٍ من المهندسين وغيرهم من هواة المسرح والعمل المسرحي، ليقدِّموا عبر فرقتهم أعمالاً مسرحية طوال عقدٍ من الزمن داخل مدينة حلب. ولم ترَ هذه المسرحيات النور إلا بعد وصول بشار الأسد إلى الحكم وتبنِّي السلطة السياسية لنشاطها المسرحي.

قدمت الفرقة سلسلة من الأعمال المسرحية أبرزها (طاب الموت يا عرب- ضد الحكومة-  ليلة سقوط بغداد- عفواً أمريكا- عربي وشوية كرامة- فساد أكاديمي)، وتحوَّل الهواة إلى فرقة منظمة يتمُّ دعمها إعلامياً ومالياً وسياسياً، ثمَّ انتقل نشاطها إلى خارج مدينة حلب لتشمل جميع المدن السورية لاسيما العاصمة دمشق، حيث استخدم النظام هذه الفرقة لرسم صورة إيجابية للسلطة الحاكمة، ولتكون بوقاً يبرِّر سياستها الاستبدادية، مدركاً مدى تأثير وسائل الإعلام في البنية الذهنيَّة للشَّعب من خلال توجيه المواد المقدَّمة وضبطها بما يُسمح لها عبر الرقابة المباشرة وتطعيم تلك المواد بالغايات الأيديولوجيَّة السُّلطويَّة.

أدلجة الكوميديا المسرحية

عملت الكوميديا في مسرح فرقة المهندسين المتَّحدين على تخفيف حدَّة الجانب المُؤدلَج؛ وذلك لئلا يتحوَّل هذا المسرح إلى مسرحٍ سياسيٍ صِرْف، فخلقت الكوميديا حالةً من الخلط بين ما هو فنيٌّ وما هو مؤدلجٌ، بمعنى أنَّه كان يتمُّ تمرير النَّقد السياسيٍّ بقالبٍ كوميديٍّ ليحقِّق التَّأثير الأبلغ في اللاوعي الجمعيِّ عند الجمهور المتفرِّج، فاستخدمت السلطة مسرحيات الفرقة لتمرير أيدولوجيتها التي تؤمن بها وتدافع عنها، فتبرز شعاراتها القومية مداعبة مشاعر الجماهير، وتمارس بذلك سياسة الاستلاب الفكري؛ لأنَّها بممارستها هذه تفرغ المسرح من مضمونه الفعلي بوصفه فضاءً زمانياً ومكانياً لممارسة حرية التعبير والمشاركة السياسية، فتملي عليه مصطلحات أيديولوجية ليتحول لأداة طيعة بيد السلطة.

في (عفواً أمريكا) تحاول المسرحية عبر لوحاتها المختلفة عرض حالة تفكك الواقع العربي، لتُظهر حقيقة هذا الواقع المعاش الذي بات عصياً على الإصلاح، ولتظهر حقيقة العرب الذين لا يتفقون ويتَّجهون صوب التعاون مع غير العرب، فتبرر السلطة بذلك تعاونها وتحالفها مع بلدان مثل إيران وروسيا والصين وتعزِّز تفتيت العرب عبر تمرير مشاهد وعبارات تشير لذلك، ثم تقدِّم المسرحية صورة تعبِّر عن رغبة العرب جميعاً في أن يصبحوا أصحاب سلطة، وعدم قبول أيٍّ منهم التنازل للآخر، وبأنَّ وصول أيٍّ منهم لمنصب أو سلطة سيجعله يمارس الدكتاتورية على الآخرين، فيخضعهم لسلطته بالقوة، أمَّا الشعب فلن يكون آمناً إلا بتشديد القبضة الأمنية عليه لئلا يسلك طريق الفوضى والفسادـ

كما عبَّرت الفرقة المسرحية عن الفكرة ذاتها في مسرحية (طاب الموت يا عرب) وكذا الحال في مسرحية (ليلة سقوط بغداد) التي تقدِّم صورة هزلية وساخرة عن حالة الواقع العربي، وتنتقد موقف العرب من غزو العراق، وترسم صورة لامعة للسلطة ومواقفها القومية الصائبة، وتدَّعي بأنَّها ستتعرض للخطر؛ لأنَّها صاحبة الموقف الوحيد المدافع عن العراق والعرب، فيقول أبو إسماعيل: "اليوم بعدو ما طمنا الصحاف – وزير الإعلام العراقي- عن ميناء جبلة وطرطوس"، ويقصد هنا تنبُّؤ السلطة بالمستقبل الذي ستعانيه سوريا من غدر وخيانة العرب، ووقوعها ضحية لغزو مشابه لما يحدث في العراق. وقد عبَّرت مسرحية (عربي وشوية كرامة) عن ذلك أيضاً حين أظهرت السلطة بأنَّها السلطة العربية الوحيدة التي تنتهج نهج المقاومة والتصدي، كما تنتقل لتسليط الضوء على الفساد الداخلي وانتشار الرشوة وتقبُّل الشعب لها، وبذلك تبرِّر ممارسة السلطة الرقابة الأمنية والتضييق على المواطنين.

وفي (فساد أكاديمي) تبرِّر المسرحية فساد السلطة واتباعها سياسة الإفساد عبر اتهام المواطنين أنفسهم بالفساد دون أن تحتكر السلطة لوحدها ذلك، فيقول أبو جمال لزوجته: "بلد صرلا أكتر من سبعين سنة الحرامية عم يحلبوها ليل نهار لاحدا عم يرحما ولا حدا عم يطعميا... بلد القضاة الي فيها بدو قضاء عليه، بلد المعلمين الي فيها بدن مين يعلمن"، وبهذا تجعل الفساد طبيعة شعبية ليكون لديها مبرر لكل ممارسة قمعية تمارسها، كسياسة تكميم الأفواه وتغييب الحريات.

وفي (ضد الحكومة) ترسم المسرحية في إحدى لوحاتها حالة مستقبلية متخيلة عبر شخصياتها، رابطة قدرة المواطن على التخيل فقط؛ لأنَّ الواقع غير قابل لبناء الطموحات، فتبث روح الهزيمة والوهن في النفوس وتحيل إلى فكرة استحالة التغيير، وبذلك تمارس التنميط على شخصية الفرد وتدجينه في حدود أطر يرسمها الخوف والإذعان، وتعرض المسرحية لوحة يقترح المسؤول فيها عدة حلول على المواطن لتحسين حاله على اعتبار أنَّ هذه الحلول هي الوسيلة الوحيدة للتغيير، وتقوم هذه الحلول في مجملها على الفساد والرشوة والتزلف للسلطة، وعندما يفكِّر المواطن ثمَّ يقرِّر أن يرفض هذه الحلول، يتَّهمه المسؤول بالعمالة والتَّواصل مع الخارج وخيانة الوطن، ويقول له: "أنت ضد الحكومة، يا إمبريالي، يا إقطاعي، يا رأس مالي، يا برجوازي، وعندك ارتباطات بالسفارات الاجنبية... أنت عميل لإسرائيل، أنت مواطن عميل، أنت ضد الحكومة".

لماذا تلجأ السلطة الدكتاتورية لأدلجة المسرح؟

تقوم بنية السلطة الدكتاتورية بالأساس على عقيدة أيديولوجية شمولية كلية مطلقة تعزِّز منظومتها السياسية وتوجِّه ممارستها في الواقع، حيث قامت كلُّ الأنظمة الشمولية في العالم عبر سيرورة التاريخ وحركته على أيديولوجية تدافع عنها وتبرِّر سلوكها في شتى ميادين الحياة، وفي الأنظمة الشمولية تتحوَّل الأيديولوجيا إلى سلطة بذاتها؛ لأنَّها تعبر عن السلطة السياسية وتتَّجه لنزعة السيطرة بشكل أكبر، وعندها يحدث تكامل بين السلطة السياسية وبين سلطة المنظومة الأيديولوجية، ويتحوَّل كلٌّ منهما للدفاع عن الآخر، للتلازم الحاصل بينهما وجودياً وفعلياً في الواقع، لهذا تجد السلطة ذاتها في أيديولوجيتها التي تتبناها والتي تعبِّر عن ذاتها وعن السلطة في نزوعها نحو الكمال.

اعتمدت السلطة في سوريا عبر سنوات طويلة تكتيك التنفيس وهو طرح مشاكل الناس بنوع من الكوميديا وإظهار أشكالٍ من الفساد واعتبارها سلوكيات أفراد لا يتصلون بالسلطة

وعندما كانت "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة"، كما يقول السياسي البريطاني لورد آكتن، لذا فقد لجأت السلطة في سوريا إلى إفساد المسرح، كما حدث مع فرقة المهندسين المتحدين، عبر إخضاعه لمنظومة فكرية مقيدة تعبِّر عنها وتجسد أهدافها، بعد أن عُرف المسرح عبر التاريخ بتصديه لمختلف أشكال الظلم وفضح الفاسدين، ولقدرة المسرح على طرح الأسئلة الكبرى والمصيرية المتعلقة بتطورية المجتمعات ومسايرتها لحركة التاريخ، فكان المسرح محاكاة لواقع أفضل ولغدٍ أجمل يتصوره الممثِّل على خشبة المسرح عبر أحاسيس وعبارات ما يلبث أن يتقمصها الجمهور، لأنَّ العلاقة بين خشبة المسرح والجمهور علاقة انعكاس مباشر، فكان لابدَّ هنا من تدخُّل السلطة الدكتاتورية لتعبِّر عن صورتها التي ترغب بتصديرها لشعبها.

واعتمدت السلطة في سوريا عبر سنوات طويلة تكتيك التنفيس، وهو طرح مشاكل الناس بنوع من الكوميديا، وإظهار أشكالٍ من الفساد واعتبارها سلوكيات أفراد لا يتصلون بالسلطة بشكلٍ مباشر ولا يعبِّرون عن سياسة السلطة العميقة، فيحاولون مزجها دائماً بفساد بعض أفراد الشعب بهدف تسويقها على أنَّها حالة شعبية وليست سلطوية، ولا تتصل بسياسة الدولة ونظامها، في حين أنَّ سياسة التنفيس هدفها محاكاة اللاوعي الفردي وتغذيته بفكرة مفادها أنَّ السلطة تحارب الفساد وتسمح بنقده عبر المسرح وغيره من منابر الإعلام، مع التأكيد على أنَّ الفساد شعبي لا يصل لمستوى قمة هرم السلطة، وإنَّما السلطة تحارب الفساد بمختلف أشكاله، بهذا تحوِّل السلطة المسرح المرآة إلى إبراز كلِّ ما من شأنه أن يوهم بإيجابيات السلطة، ويسلط الضوء على هفوات وسلبيات بعض الأفراد مع تضخيمها، وهذا ما دفع السلطة في سوريا لطرح مفاهيمها الأيديولوجية عبر مسرح المهندسين المتحدين، فباتت مفاهيم الوطن، والقائد، والمقاومة والممانعة، وغيرها مفاهيم مكررة بشكل يشوش الحقيقة حتى على من يدركها ويؤمن بها، لأن السلطة ومن أعلى هرمها تتبع سياسة أكذب وأكذب حتى تُصدق.

ختاماً، لا شك أنَّ مناخ الحرية الذي خلقته ثورة السوريين أبدعت فكراً وفناً بناءً، سيؤثر في صناعة الجيل الجديد، إلا أنَّه ما يزال يحاول خلق مسرح سوري مختلف يعبِّر عن هوية سوريا الحرة وماهيتها، وقد بتنا نشهد أعمالاً مسرحية في المنفى مميزة كما هو الحال مع أعمال عمر بقبوق في لبنان، وحلا عمران ووليد قوتلي في تركيا، ونوار بلبل في مخيمات اللاجئين في الأردن، إلا أنَّ معوقات صناعة مسرح سوري في المنفى ما تزال حاضرة، ولكن هل ننجح في تجاوزها؟ وهل تصبح العلاقة بين السلطة والمسرح علاقة بنَّاءة تهدف إلى تفعيل الوعي الجماهيري ومشاركته في الفعل السياسي؟


[1] باحث وأكاديمي سوري