السلطان محمد الفاتح في عيون الأديب النمساوي شتيفان تسفايغ

2020.08.20 | 23:50 دمشق

fatih_sultan_mehmed_han_-_alsltan_mhmd_khan_alfath.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا أتوقع أننا نقع في تاريخ الأدب بمراحله المختلفة على أديب كان مسكوناً بهاجس فهم العظمة، ومفعماً بهمِّ الدلالة عليها وتقديمها للناس، ليشاركوه متعة تعرّفها كشتيفان تسفايغ.

لقد كان هذا الأديب النمساوي الكبير شاعراً فريداً، وروائياً لمّاحاً، وكاتباً مسرحياً متألقاً، ولكنه كان، فوق ذلك، الكاتب الأروع والأذكى في كتابة السِّيَر الذاتية للبناة العظام (بناة العالم) الذين أضفوا على العالم كل مظاهر المجد. المجد في صوره البطولية كلها: الأدبية والفكرية والعسكرية، ولذلك كتب عن: تولستوي، ودويستوفسكي، وستاندال، وكلايست، وبلزاك، وديكنز، وهولدرن، وكازانوفا، ورومان رولاند ونيتشه وفرويد. وكان يجمع بين وجهات نظر التاريخ وعلم النفس، ولكن الأهم من كل ذلك عنده كان وجهة نظر الفن التي كانت تثير على الدوام في نفسه الإحساس بالمهابة، فينقلها إلينا بكل اقتدار وألمعية.

كان مفتشاً لا يكلّ عن العبقرية. يتصفّح حياة الكبار ويغربلهم حتى يقتنص عبقريةً من العبقريات، فيقيّدها بكتابته الدرامية الملحمية! ويتتبّع ملايين الساعات المنسربة هدراً في تاريخ العالم حتى يوثّق ساعة تاريخية حاسمة من ساعات البشرية، وهي الساعات التي أطلق عليها (ساعات القدر)، وقد اصطفى من هذه الساعات لحظات بطولية من حياة دوستويفسكي، وتولستوي، ونابليون، ونونيز دي بالبووا، وجورج فريدريش هيندل، ومحمد الفاتح، وكانت لحظة فتح القسطنطينية لديه من أهم ساعات القدر التي غيّرت مسار التاريخ، وأنهت حقبة تاريخية عالمية، وافتتحت حقبة عالمية جديدة.

ينطلق تسفايغ في حديثه عن محمد، وكأننا أمام مشهد سينمائي تمت صياغته الإخراجية على أفضل نحو، من اللحظة التي يأتيه فيها خبر وفاة والده السلطان مراد، وكان محمد أكبر أبنائه ويبلغ من العمر واحداً وعشرين سنة، فيكتم الخبر ويرمي بنفسه على أفضل خيوله ويضرب بسوطه جواده الأصيل من آسيا الوسطى إلى ضفة مضيق البوسفور، وسوف نظل نتساءل ونحن نقرأ الفصل الخاص بفتح القسطنطينية هل نحن أمام نص تاريخي؟ أو سيرة ذاتية؟ أو سيناريو فيلم؟ حيث تتمازج وتتداخل كل هذه الأصناف من خلال حِرفية الكاتب الذي يعرف كيف يقدّم لنا نصاً متماسكاً بليغاً يمكن أن يغني خيال القارئ، وأن يُستثمر في تحويله إلى سيناريو فيلم سينمائي في الوقت ذاته.

ينطلق تسفايغ في حديثه عن محمد، وكأننا أمام مشهد سينمائي تمت صياغته الإخراجية على أفضل نحو

ينتقل محمد إلى الجانب الأوروبي من المضيق، وهنالك يكشف لأخلص خلصائه خبر موت والده، ويجمّع قوة مصطفاة ويذهب بهم إلى العاصمة أدرنة حتى يتمكن من سحق أي مطالبة أخرى بالعرش. وعلى نحو مكثّف يخبرنا كيف يؤّمن السلطنة لنفسه، ولا ينسى تسفايغ أن يخبرنا بقتله إخوته حتى يضمن استقرار الملك! وقبل أن يضعنا تسفايغ في سير أحداث فتح القسطنطينية يرسم لنا صورة هذا الأمير الشاب الذي غدا سلطاناً، فهو داهية ماكر، مفعمٌ بالحيوية، وصاحب عاطفة حارة، ونزّاع إلى المجد، ووجهته المركزية أن يفوق جده بيازيد، ووالده مراد! يحوز ألوان المؤهلات الدبلوماسية، وهو جندي جسور لا يردعه عائق. عيناه ثاقبتان كئيبتان، وأنفه حاد ينمّ عن الشراسة. رجلُ علم وثقافة، محبٌّ للفن، ويقرأ سيرة صاحبه قيصر وسيَر الرومان باللاتينية، ولكنه بربريٌ يهريق الدماء كما يهراق الماء. رجلٌ يجمع بين الخصلتين في وقت معاً: بين التقوى والقسوة، وبين حرارة العاطفة والخُبث في الوقت نفسه.

وقد استوقفت هذه الأوصاف المتناقضة الباحثة التركية سيرا يلماز فكتبت بحثاً عن (البنى الاستشراقية في قصة فتح بيزنطة لشتيفان تسفايغ) عالجت فيه هذه البنى في سياق مفهوم الاستشراق الذي اختطّه إدوارد سعيد، وطبقت جميع رؤى سعيد في علاقة الأدب بالاستشراق على تسفايغ، ولكن يمكن أن نقول إنها كانت متسرعة، لأن تسفايغ، وإن كان مبالغاً في وصفه، لم يكن ينطلق من رؤية استشراقية، وإلا كيف نفهم في ضوء تحليل هذه الباحثة وصفه للفاتحين الإسبان: "وثمة خليط فريد لا سبيل إلى تفسيره في شخصية هؤلاء الفاتحين وأسلوبهم، إذ يتسمون بالتقوى والإيمان على قدر ما يتسم به المسيحيون في أي يوم من الأيام، ويجأرون إلى الله بالدعاء من قلب يستعر حرارة، ويرتكبون في الوقت ذاته باسمه أشد الفظائع الوحشية افتضاحاً في التاريخ، وهم على كونهم مؤهلين لأروع الإنجازات البطولية المنطوية على الجرأة والتضحية والمقدرة على احتمال المعاناة يخادع بعضهم بعضاً ويقاتل بعضهم بعضاً بأكثر الأساليب خلواً من الحياء" (كتاب ساعات القدر في تاريخ البشرية، ص: ٢٥).

وعلى نحو مكثّف، ونصوص تسفايغ دائماً مكثّفة، يشرح لنا واقع حال الإمبراطورية البيزنطية التي كانت تمتد قبل قرون من جبال الألب إلى صحارى آسيا، فتقلصت مع مرور الوقت وغدت في أيام السلطان محمد مجرد مدينة، ورأساً بلا جسد، وحاضرة من دون بلاد، ومجرّد سور دائري هائل يطوف حول الكنائس والقصور والمنازل. مدينة أنهكها النهب حتى نخاع العظام من قبل الصليبيين، وفتك بها الطاعون، وأرهقها الصمود الخالد أمام اندفاعات الشعوب البدوية، وفتَّ في عضدها الخصومات القومية والدينية، فما عادت هذه المدينة/ الإمبراطورية تستطيع أن تقدم الرجال، ولا جرأة الرجال، وعلى الرغم من ذلك كانت بالنسبة إلى أوروبا رمز شرفها، لمجرّد أنها محاصرة من قبل الأتراك، ولذلك تعقد روما اللاتينية صلحاً تاريخياً مع بيزنطة اليونانية بهدف الوقوف في وجه الزحف التركي، لكن لحظات التعقل والتصالح قصيرة "إذ لم يكد شريط المصالحة يضفره العقل حتى مزّقه التعصب" حين رفض الراهب المثقف غيناديوس الصلاة باللغة اللاتينية وعدَّ ذلك خيانة للعقيدة، فثارت ثائرة الناس، وضاعت فرصة المصالحة.

يستقبل محمد عند ارتقائه العرش رسول الإمبراطور قسطنطين بكلماته الأكثر وداً، والأكثر بعثاً على الطمأنينة، ويرى تسفايغ أن ذلك (شأن الحكّام الجبابرة حين يكونون في طور الإعداد للحرب ولم يعدّوا بعد للحرب عدتها الكاملة فيتحدثون عن السلام حديثاً يبلغ من السخاء أقصى حدوده"، وفي اللحظة ذاتها يعقد السلطان الشاب اتفاقيات الحياد المتبادل مع الهنغار والصرب مدة ثلاث سنوات، وهي الفترة التي ينوي خلالها ضم القسطنطينية إليه.

يستعرض تسفايغ الاستفزازات التمهيدية التي يقوم بها السلطان ضد بيزنطة تمهيداً لاجتياحها، ولكنه في المقابل لا يشير أدنى إشارة إلى الاستفزاز البيزنطي، وفي آب من عام ١٤٥٢ يستدعي السلطان كل أغاواته وباشاواته للاجتماع، ويعلن إليهم رغبته علانية في مهاجمة بيزنطة والاستيلاء عليها، وفي الخامس من نيسان عام ١٤٥٣ "يطغى طوفان عاصف كأنما انبثق على نحو مفاجئ من جيش عثماني لا تدرك الأبصار مداه على سهل بيزنطة إلى أن يصل إلى ما دون جدرانها بقليل، وعلى مدار قرابة الثلاثين صفحة يصف لنا تسفايغ وقائع المعارك التي انتهت في ٢٩ أيار من نفس السنة بفتح القسطنطينية، ويكاد يكون مسلسل Rise of Empires Ottoman الذي يُعرض على النتفلكس الآن تصويراً حرفياً لها.

وفي أثناء سرد مجريات المعارك والمواقف البطولية لكلا الطرفين تستوقفنا المشاهد الآتية:

المشهد الأول: مشهد بدء إعلان المعركة بالصلاة، حيث يأمر السلطان ببسط سجادة الصلاة ويركع ويسجد، فيركع ويسجد وراءه عشرات الألوف إثر عشرات الألوف من جيشه في الاتجاه ذاته ويدعون الله أن يهب لهم القوة والنصر، وبعد الصلاة يتحول هذا الخاشع الذليل إلى المتحدي، وهذا العبد إلى السيد الجندي المحارب، ويبدأ قرع الطبول للإعلان أن حصار المدينة قد بدأ.

المشهد الثاني: هو مشهد المدفع العملاق الذي صُنع خصيصاً لدك أسوار المدينة، وكان هذا المدفع أكبر مدفع عرفته البشرية حتى ذلك الحين، وحين تم نصبه أمام المدينة وأرادوا تجريبه أول مرة أرسل إلى المدينة خبراً يعلمهم بهول صوت هذا المدفع تنبيهاً للنساء الحوامل حتى يحذرن، ويكن مستعدات لسماع صوت دويه الهائل، فلا يصبن بالرعب والإجهاض، وهذه مأثرة لا يمكن إغفالها أو التقليل من شأنها، ولا يمكن أن يوفيّها حق فهمها سوى السوري الذي كان وما زال يتلقى براميل السلطة الأسدية التي تسقط فوق رؤوس الحوامل والرضّع والصغار والكبار والعجائز من دون تنبيه ولا تحذير، إلى درجة أنهم باتوا يحسدون أهل غزة على عدوهم الذي يطلق التحذير قبل أن يقصف منزلاً أو عمارة.

المشهد الثالث: في اللحظة التي ييأس فيها السلطان من اقتحام المدينة يطلق وعده لضباطه وجنوده أنه سوف يبيح لهم المدينة ثلاثة أيام بكل ما فيها ومن فيها تحفيزاً لهم، وفعلاً يوفي بعهده، وهو مشهد مؤلم كارثي بالنسبة إلى المغلوب، وبالقياس إلى زمننا ومفاهيمه وقيمه وأخلاقه.

المشهد الرابع: يعود ويعدّل لنا تسفايغ صورة القائد القاسي الذي لا يرحم، حين يقف على مشارف آيا صوفيا، فينزل عن جواده في خضوع وتواضع ويحني هامته ثم يتناول حفنة من التراب وينثرها على رأسه ليتذكر أنه هو نفسه من الفانين، ولكيلا يتعاظم بانتصاره، ثم ينهض قائماً ويدخل كنيسة الحكمة المقدسة، ويحوّلها إلى مسجد، "ويهوي الصليب الذي كان يرتفع عالياً ناشراً ذراعيه ألف عام ليحيط بآلام كل المعمورة ويدوّي صوت الحجر عالياً في أرجاء الكنيسة ويتخطاها إلى مدى بعيد، فمن هذا الهوي يرتجف الغرب بأسره".