السجين الذي مات وعاش

2020.10.07 | 00:03 دمشق

0271f5ee640ac057bb249fec5ae81304.jpg
+A
حجم الخط
-A

في أثناء رثائي أصدقاءَ العمر، عبدَ العزيز الموسى وعبدَ القادر عبدللي وتاج الدين الموسى، وأنا أخوكم، أتيتُ على سيرة صديقي الآخر الشاعر الراحل محمد الشيخ علي، وتوقفتُ عند مفهوم كان قد ابتكره وأطلقه على باكورة دواوينه الشعرية، وهو: مقلوب البكاء.. الإنسان السوري، بحسب هذا المفهوم، لا يضحك إلا عندما يعوزه البكاء!

في سجن تدمر، مثلاً، بين سنة 1980 وسنة 1997، كانت تحصل أمور لو كُتِبَتْ وترجمت إلى لغات العالم المتحضر لاستهزؤوا بنا، وقالوا لنا إن هذه بروباغاندا سياسية، وأنتم تؤلفونها لتسيئوا لنظام الأسد، إذ من غير المعقول أن تحصل هذه الأمور في الخيال، ولا حتى في الكوابيس، فكيف تزعمون أنها واقعية؟!

كان سجن تدمر، بالنسبة إلينا نحن المتروكين خارج السجن، دفتراً مطوياً، غامضاً، ولكننا بدأنا نتعرف إلى بعض حكاياته اعتباراً من سنة 1992، حينما بدأ النظام يُخلي سبيلَ بعض السجناء الذين لم يُقْتَلوا في مجزرة رفعت الأسد، ولم يشنقوا في ساحة السجن الخلفية، ولم يموتوا تحت التعذيب، أو من شدة القهر، أو من البرد، أو من سوء التغذية، أو من المرض وقلة الدواء.

كيف يحدث الضحك في مثل هذه الحالات؟

إن أكثر ما يسبب الضحك، بحسب الفيلسوف هنري برجسون؛ الطِبَاعُ المتصلبة، والقناعات الراسخة، والعادات المستحكمة ببعض الناس. مثلاً؛ وعلى الرغم من التنكيل الفظيع الذي يتعرض له السجين من لحظة دخوله السجن حتى لحظة إطلاق سراحه (بعد عمر طويل)، فإن أحد الضباط يجتمع بالسجين، قبيل مغادرته، ويقول له، باختصار:

- شوف ولاه، ترى أي كلام بتقوله بعد خروجك، أي أسرار بتبوح فيها حتى ولو قدام زوجتك، نحن ما راح نعمل لك شي غير إن نرجعك لهون!

فيصاب السجين بالذعر نتيجة وقوعه تحت كابوس (العودة إلى هنا)، وبمجرد ما يخرج من السجن يخرس.

ثمة تفصيل صغير يجدر بنا أن نذكره قبل الدخول في قصة الرجل الذي مات وعاش. وهو أن الأحكام التي كان يصدرها رئيس محكمة أمن الدولة سيئُ الذكر فايز النوري كانت موزعة على فئات: سنتان، خمس سنوات، عشر سنوات، خمس عشرة سنة، مؤبد، إعدام.. وبالنسبة للأحكام ذات المدة المحددة، لم يصادف أن

المساجين الموجودون في مهجعي البراءة قعدوا سنين طويلة، لم يجرؤوا خلالها على المطالبة بإطلاق سراحهم سوى مرة واحدة

أنهى أحد المحكومين مدته وخرج، ولا بد من إبقائه بضعة شهور، أو عدة سنوات، مما يمكن أن نسميه (زودة البَيَّاع)، ولعل أغرب الأشياء، وأكثرها بعداً عن التصديق هو وجود شيء اسمه "مهجع البراءة"، وقد استفسرت عنه من الصديق محمد برو، فقال لي: مهجعان، وما كانا يتسعان لكل الأبرياء، فبقي كثير منهم موزعين على بقية المهاجع!

المساجين الموجودون في مهجعي البراءة قعدوا سنين طويلة، لم يجرؤوا خلالها على المطالبة بإطلاق سراحهم سوى مرة واحدة، وكان ذلك عندما زار المدير المجرم فيصل غانم السجنَ في مناسبة الحركة التصحيحية. وكان يومئذ، على غير عادته، رائقاً مبسوطاً، يبتسم ويضحك، ويمازح المساجين، وينكت. ولك أن تتخيل عتليتاً كهذا ينكت! مؤكد أن تنكيته يجعل المرء كارهاً حياته التي يكرهها قبل التنكيت بطبيعة الحال. استغل أحد سجناء مهجع البراءة الفرصة وقال له:

- ممكن سؤال؟

ومع أن السجين أكبر سناً من الغانم، قال له:

- ولو يا ابني تفضل، تحت أمرك.

قال السجين: أنا صار لي هون تلات سنين، مع إني محكوم براءة، يعني نحن الآخدين براءة أيمتى بدكم تطالعونا؟

فطبطب على كتفه بحنان أبوي وقال له:

- لا تاكل هَم يا ابني، والله إذا بتقعد هون عشرين سنة بالأخير بدك تطلع!

المهم أن ثلاثَ المحافظات الرئيسية التي كان فيها أكبر عدد من المعتقلين في تلك الأيام، إدلب وحلب وحماة، شهدت في الفترة الممتدة بين 1992 و1998، نشاطاً اجتماعياً محموماً، إذ بدأ ثقب في جدار كتيم يسرّب لأهالي المعتقلين بصيصاً من الأمل.. والسجين القادم من تدمر، بمجرد ما يدخل داره، لا يتوقف جرس الباب عن الرنين، وكل ربع ساعة يأتي رجل أو امرأة أو مجموعة رجال ليسألوه عن ابنهم فلان الفلاني، هل هو على قيد الحياة؟ أم أعدم؟ أم مات ميتة طبيعية؟ وهل سيطلقون سراحه؟ ومتى؟ والسجين الطليق المسكين لا يجرؤ عن الإجابة، فهو مهدد بالعودة إلى تدمر إن حكى، ومع استمرار الترجي والإلحاح يقول:

- ما بعرف. ما عندي فكرة. ما سمعت بهالموضوع. ما سمعت بهيك اسم.

فإذا قيل له (ولكننا سمعنا أنه ما زال حياً وسوف يخرج) يقول:

- إن شاء الله. منتأمل من الله تعالى. الله لا يخجلكم.. إلخ.

ومع هذا كله، فقد تشكلت، في تلك الأيام، حلقة كبيرة مترابطة من أهالي المساجين، تمكنوا من الوصول، عن طريق الأشخاص المقربين جداً من المساجين، إلى حقيقة الأمر الذي يبحثون عنه، وكل مَن كان له سجين عَرَف مصيره، إما بشكل دقيق، أو على وجه التقريب.  

نأتي الآن إلى الحكاية..

في يوم مشمس من ربيع سنة 1996، على ما أذكر، كنت جالساً مع أحد هؤلاء السجناء المفرج عنهم، ولأصطلح عليه باسم "سليم"، وبيني وبينه صلة قرابة، وفي وقت الغداء انصرف الحاضرون، وأنا تقصدتُ أن أبقى، وقلت له:

- أنا عزمت حالي ع الغدا، لأني حابب اسألك سؤال.

ضحك وقال لي: ما بعرف!

قلت له: بعرف إنك بتعرف وما بتحسن تحكي، لأنك مهدد، لكن أنا سري غميق، ومستحيل إحكي وأسبب لك مشكلة. ضروري كتير تجاوبني، صديقي "فلان الفلاني" أيش وضعه؟

فقال لي: صديقك فلان خلال يومين بيوصل لهون. أموره منتهية. بس لا تسألني شي تاني بترجاك.

وفي هذه الأثناء دخل شاب عمره نحو عشرين سنة، وقال:

- إبراهيم الحموش (اسم افتراضي) طلع من سجن تدمر!    

ارتسمت على وجه سليم علامات الدهشة والاستغراب. وسأل الشاب:

- إبراهيم الحموش طلع من السجن؟ طيب وينه هلق؟

قال الشاب: أجا خبر لأهله إنه طلع، واستأجروا عشر سيارات، زينوها متل زينة العرس، وأخدوا معهم طبال وزمار وراحوا على سراقب، بدهم يستقبلوه ع الطريق العام، ويجيبوه لهون.

تمتم سليم (بشيء من الحيرة):

- الحمد لله رب العالمين. كويس إنه طلع وفَرَّح قلوب أهله ومحبينه.

وقال للشاب: بالله عليك لما يصير إبراهيم الحموش في البيت أعطينا خبر حتى نروح نسلم عليه.

قال الشاب: أكيد عمي سليم. أنا بجي لعندك وبخبرك.

بعدما خرج الشاب قلت لسليم:

- لما هادا الشاب قال إنه إبراهيم الحموش طلع من السجن، كأنك ما صدقت.

ابتسم وقال لي:

- إبراهيم الحموش شلون بده يطلع من الحبس يا أستاذ؟ بعدما أعدموه جابوا لنا ياه ع المهجع، وأنا غسلته وكفنته وصلينا عليه أنا والشباب، وناديت ع السجان وقلنا له:

- الميت جاهز للدفن.

ودخلوا أربع عناصر خدمة أخدوا جثته وراحوا!

في هذه اللحظة خيم علينا نحن الاثنين حزن عميق، أردت أن أخرج منه بمزحة، فقلت له:

- يعني، برأيك، ما في احتمال يكون طلع فعلاً، ويجيبوه أهله من سراقب؟!