الساقطون على دروب النضال

2022.01.12 | 05:07 دمشق

sana.sy_80-660x330.jpg
+A
حجم الخط
-A

أحبائي القراء. هل سمعتم، أو قرأتم، في يوم من الأيام، العبارة التالية: أعترفُ، وأنا بكامل قواي العقلية والنفسية، أنني متخاذل، وساقط على دروب النضال؟

يسمي الرفاقُ البعثيون هذا النوعَ من الاعتراف "نقداً ذاتياً"، ويعتبرون "النقد والنقد الذاتي" ركيزتين أساسيتين تميزان البعثي المناضل الشريف عن غيره من المتخاذلين، والساقطين، حاشاكم.. ولذلك ترى كلَّ بعثي شريف يطالب رفاقه بأن يمارسوا النقد الذاتي على أنفسهم، وأما هو فيتهرب منه، لأنه (والحكي بيننا) صعب، بل شبه مستحيل، إذ هل يعقل أن ينتقد الإنسان نفسه؟ وهل في البعثي عيوب، أصلاً، لكي ينتقدها؟

فقرة اعتراضية 1: كان أحد الخضرجية في بلدتي معرتمصرين يستخدم المغالطة اللفظية عندما ينادي على البرتقال فيقول: عيبه أنه طيب. وأنا أقول: عيب البعثي أنه خالٍ من العيوب.

إنه، إذن، نوع من (التضحية بالغير)، وفق المبدأ الذي أشار إليه الكاتب الفرنسي مرسيل إيمي في مسرحيته الشهيرة "رؤوس الآخرين"، وملخصه: أنني لا أكترث لجز رؤوس الآخرين، وتطايرها في الهواء، وتدحرجها على الأرض، طالما أن رأسي سالم!! وهناك نكتة يتداولها السوريون عن مجموعة من رؤساء دول العالم، وبعض أعوانهم، كانوا على متن طائرة، وأعلن كابتن الطائرة أن عطلاً فنياً طارئاً قد وضعه أمام خيارين، إما أن يسارع بعضُ الركاب للتضحية، فيلقوا بأنفسهم من شاهق الطائرة، أو أن الطائرة ستنفجر ويموت الجميع. استوعب الركابُ الأفاضل المشكلة بسرعة فائقة، ووقف الرئيس الألماني من توه وقال "باسم الشعب الألماني العظيم"، وفتح باب الطائرة وقفز.. وقال الرئيس الأميركي "باسم الشعب الأميركي"، وقفز.. دواليك حتى وصل الأمر إلى حافظ الأسد فألقى كلمة مؤثرة، أكد فيها على صمود سوريا في وجه الإمبريالية والصهيونية والرجعية، وأشار إلى أن أبناء الشعب السوري مولعون بالتضحية بالغالي والنفيس والروح والدم، في سبيل وطنهم، وضرب مثلاً بالسوريين الذين يستشهدون في معارك الفَخَار على الأرض اللبنانية، وفي حلب، وحماة، وفرع فلسطين، وسجن تدمر، وقال "باسم الشعب السوري العظيم أضحي بالرفيقين زهير مشارقة وعبد الله الأحمر.. وفتح الباب، ودفشهما، وحينما قرأ على وجوه الآخرين علامات تدل على قلة الإعجاب بما فعله، فتح باب الطائرة ودفش الرفيق صابر فلحوط.  

فقرة اعتراضية 2: يُحكى، والعهدة على الراوي، أن هناك منظمة سورية اسمها "اللجنة الشعبية لدعم الشعب الفلسطيني ومقاومة المشروع الصهيوني"، وأن الدكتور صابر فلحوط رئيسها، وأن رجلاً من الجولان جاء إلى مكتب صابر فلحوط، ذات مرة، وقال له: أنا يا رفيق نزحت من بلدي، بثيابي التي كنت أرتديها وقت عدوان 1967، والآن لا يوجد عندي ما يثبت شخصيتي، وأريد من حضرتكم أن تمنحوني جواز سفر أحمي به نفسي وعائلتي من الضياع.. وكعادته عندما يتحدث، أو يكتب، أو ينظم الشعر، سارع صابر إلى نفض الرجل بخطابة من كعب الدست، وأعطاه جواز سفر صالحاً حتى سنة 2000. قال الرجل: وبعد سنة 2000، ماذا أفعل يا رفيق؟ وهنا زعل الرفيق صابر فلحوط من الزلمة، وقال له: أَوَتَظُنّ أن القائد العربي الكبير الرفيق المناضل حافظ الأسد يمكن أن يترك الجولان بدون تحرير حتى سنة 2000؟

(ومن هنا نرى أن قرار حافظ بالتضحية بصابر فلحوط كان حكيماً).

ومن الأمور الطريفة؛ أن البعثي إذا طُلب منه، في اجتماع حزبي، أن يمارس النقد الذاتي، سرعان ما يستخدم ذكاءه ليعيد الكُرَة إلى مرمى الرفيق الذي طلب منه ذلك، فيقول له، مثلاً:

- أعترف أنني تخاذلتُ، وسقطتُ على درب النضال، بدليل أنني أعرفُ رفيقاً بعثياً (لن أذكر اسمه تلافياً للإحراج)، أصبح ولاؤه للقائد التاريخي بطل التشرينين، تشرين التحرير وتشرين التصحيح، في الآونة الأخيرة، موضعَ شك، فقد سمعتُ منه، قبل أيام، كلاماً ملتبساً، يدل على وجود ارتباط له بجهة خارجية معادية لقطرنا الصامد، وأنه يقبض من دولة خليجية لا أريد أن أسميها، وبالدولار، وكان الواجبُ يقتضي مني أن أبلغ عنه الجهات المختصة، لكي يجعلوه عبرة لمن يعتبر، ولكن حالتي النضالية ضعفت آنذاك، وقلت لنفسي: حرام، برقبته عيال، وسكت عنه.

فقرة اعتراضية 3: هذا الموقف له احتمالان: الأول أن يخاف الرفيق الأول، (ويخريط)، وينتظر حتى ينتهي الاجتماع، وينفرد بالرفيق الذي هدده، ويقول له: دخيلك يا معود، برقبتي عيال. وإذا لزم الأمر يكبس له في يده مبلغاً من المال لقاء سكوته، والثاني، أن يريه العين الحمراء، ويستخدم أسلوبه نفسه في التهديد، فيحييه على شجاعته، ويطلب من جميع الرفاق الموجودين في الاجتماع أن يحذوا حذوه، ويلمّح له بأنه ليس قصير حربة، يعني أن بإمكانه، هو الآخر، أن يلبخه بتقرير لا ينبت عليه حشيش، ويذكِّره بالمثل القائل: طَحَّان لا يُغَبِّر على كَلَّاس. ويختم الاجتماع بترديد الشعار.

أردت، من وراء هذه المقدمة؛ أن أقول إننا، نحن أبناء هذه البلاد، لا نسمح لأحد أن ينتقدنا، فكيف ننتقد أنفسنا؟ الأدباء السوريون، على سبيل المثال، لا يبدعون في أدب السيرة الذاتية، للسبب ذاته، وهو أن واحدهم لا يعترف بهفوة صغيرة ارتكبها ذات يوم، فهل يعقل أن يعترف بأشياء مخجلة موجودة في تاريخه الشخصي؟ وأزيدكم، الآن، من القصيد بيتاً، فأقول إن القراء يبحثون بين سطور الأعمال الأدبية، ليعثروا على شخصية تشبه الكاتب نفسه، ويتحدثوا عنها.. ومن تجربتي الشخصية إن أكثر من قارئ اطلع على روايتي "أبو دياب يتكلم في الأفراح" سألني إن كان "إبراهيم البَربريسي" في الرواية هو أنا؟.. والحقيقة أن معظم الشخصيات الرجالية التي أبتكرُها قريبة مني.. ولكن هذا الأمر ليس سيئاً، فإبراهيم البربريسي شخصية إيجابية، حتى ولو كان يحب النسوان.. ولكن الأمر يصبح خطيراً أكثر عندما يكون الكاتب امرأة، وجريئة، وتوجد في أعمالها مشاهد جنسية، فيقرر بعض القراء، على الفور، أن هذه المشاهد من بطولتها، وأن الرجل الذي تمارس معه بطلة الرواية الغرام، هو الكاتب فلان، ومن هذا الافتراض ينتقلون إلى أن بين الكاتبة وهذا الكاتب علاقة (واقعية)، وهذا قد يؤدي في مجتمعنا إلى وقوع جريمة يرتكبها أهل الكاتبة..

فقرة اعتراضية أخيرة: يمكن أن نخرج من هذا الحديث بخلاصة غير سارة، هي أننا تخلفنا عن العالم لأسباب كثيرة، منها ابتعادنا عن الصراحة والوضوح والصدق، في الأدب، وفي مختلف مناحي الحياة.