السؤال الأزلي عن علاقة الدين بالسياسة

2019.12.06 | 17:05 دمشق

sdgfh.jpg
+A
حجم الخط
-A

لقد حاول الفكر العربي الإسلامي التوفيق بين النظريّة التي أنتجها في الحكم وبين التغيّرات الطارئة على واقع الحكم، فقد كانت الشريعة نظاماً للقانون المدني والأخلاقي على حدّ سواء، ورأوا أنّه لابُدّ من قائد ذي سلطة يحرس الشريعة، وتمثّل لهم ذلك في وجود خليفة على المسلمين.

وكانت مهمّة الخلفاء هي خلافة النبي في جزء من وظائفه وصلاحياته فقط، فالسيادة للّه، والحكّام ما هم إلاّ وسائل لتنفيذ الشريعة، وليس لهم أن يشرّعوا في الدين، لأنّ الدين قد اكتمل. والخليفة الصالح هو من يخضع لمقاصد الله في صلاحياته الدنيوية، والطالح هو من يخرج عليها. وقد صدرت الخلافة أصلاً عن الإمامة التي هي وظيفة دينية، وسرعان ما تطوّرت نحو نظام سياسي، يحكم بموجبه الخليفة بمؤهّلاته لا بميـزات خارقة، ويُنتخب بالبيعة ويطاع ما أطاع الله. وبقي الأمر كذلك حتى انتقلت الخلافة إلى الأمويين فالعباسيين، واختلط فكر الفرس والروم والهند والترك

عاملت الحكومة، في العصرين: الأموي والعباسي، الأحرارَ الذين حاولوا معارضة السلطة السياسية، بكل قسوة وعنف، متناسيةً تسامح الإسلام، وأهميّة أن تعيّن الأمّةُ الخليفةَ راضية به

في الدولة العربيّة، ممّا أثّـر على وضع نظام الحكم والفلسفة السياسية للدولة، فتطوّرت سلطة الخليفة إلى سلطة أوتوقراطية (Outocrate) وتدهورت الشورى إلى نظام شكلي مقتصر على المقرّبين. وقد عاملت الحكومة، في العصرين: الأموي والعباسي، الأحرارَ الذين حاولوا معارضة السلطة السياسية، بكل قسوة وعنف، متناسيةً تسامح الإسلام، وأهميّة أن تعيّن الأمّةُ الخليفةَ راضية به.

هكذا تحولت مؤسّسة الخلافة الدينيّة إلى مؤسّسة سياسيّة (أو سياسة مجسّدة) لا نصّ فيها، وإنّما أنشأها الصحابة ومن تلاهم. وهي ليست ملزِمة لمن بعدهم، وبالتالي فإنّ العودة إلى الخلافة ليست واجباً دينيّاً، وكلّ ما هو مطلوب أن يجري العمل في المؤسسة السياسية على أساس قاعدة الشورى. إنّ الإسلام لم يدعُ قط إلى وحدة إدارتي المُلك والدين وحدة كاملة. إنّ الأفكار الديمقراطيّة انتشرت في الغرب داعية إلى الامتثال لرأي المواطنين، وإلى إنشاء مجلس نوّاب منتخَب، يراقب السلطة التنفيذيّة.

وصلت تلك الأفكار إلى مفكّري النهضة العربيّة. وفي حين طالب (الطهطاوي) بالسير على نهج الغرب والاستفادة من الأنظمة الأوروبيّة ومبادئها المدنية، أراد الكواكبي هضم أنظمة الغرب، لأنّه رأى أنّ معرفتها معرفة دقيقة تحيلنا إلى إدراك أنّها صورة جديدة من صور إحياء المبادئ الإسلامية الأصيلة. فلماذا نأخذ عنهم ما داموا هم أصلاً قد عادوا إلى مبادئ الإسلام الصحيح واستقوا منه؟ لماذا لا نجتهد مثلهم لنستخرج أحكامنا من "القرآن الكريم"، ونعود إلى الشورى الإسلامية؟ إنّ هذه الأصول، مع بعض التعديل، قد ((قرّرتها الإسلامية ديناً)).

وإذا تعمّقنا في مبادئ الإسلامية، عند الكواكبي، نجد أنّها تتركّز في المساواة والحرية، والشورى، والتنظيم القائم على أساس العدل والتعاون بين أفراد الوطن الواحد. وكثيراً ما يحاول الكواكبي اكتشاف بعض عبارات الديمقراطيّة الأوروبيّة الأساسيّة من جذور الإسلاميّة. فمجلس النوّاب، الذي وظيفته السيطرة والاحتساب على السلطة التنفيذية، التي يسمّيها الكواكبي الإدارة العموميّة السياسيّة، له مرادف في الإسلامية هو أهل الحل والعقد في الأمّة. والرأي العام في الديمقراطية الأوروبيّة يعادل إجماع الفقه الإسلامي في الإسلامية. وقد عودلت الديمقراطيّة السياسيّة عنده بالشورى الدستورية الإسلاميّة.

هكذا نجد أنّ الكواكبي حاول التوفيق بين الأفكار العربيّة الإسلاميّة وبين النظريات الغربية والمؤسسات القائمة في أوروبا، وذلك من خلال بحثه عن أصول مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، وأُسس سيادة القانون والنظام البرلماني في تقاليد العرب وفي مبادئ الإسلام. فالحاكم المسلم يخضع لشريعة الإسلام المتمثّلة في القرآن والسنّة ويشاور، كما يخضع الحاكم المصري للدستور والقانون والمجلس النيابي. لكنّ ذلك لا يعني أنّ الكواكبي قد استطاع الاتّكاء على الشريعة والتراث في بحثه عن الديمقراطية، بل لم يكن في وسعه إلاّ أن يرفدها بما حصل عليه من أفكار التنوير الغربي. ومهما يكن مصدر الديمقراطية فإنّه لا يمكننا أن نرفضها لمجرّد كونها مفهوماً غربيّاً، كما لا يجوز قبولها كما أتت من مصدرها حيث كان. بل لابُدّ من فهمها بحسب متطلّبات مجتمعنا حتّى لا نقسره على فعل خارجي، لا قدرة له عليه، إذ لابُدّ أن يكون الفعل فعلاً داخليّاً وليس ردّ فعل خارجي. وهذا ما حاول الكواكبي التوصّل إليه، وإن يكن بشيء من الضبابيّة، المشروعة في حينه. والإسلامية عند الكواكبي ليست ديناً متعلّقاً بالآخرة وحسب، ولكنها أسلوب في ممارسة السياسة والفكر والاقتصاد أيضاً، فهي والديمقراطية شيء واحد، من المنظور العام. لكنّها ديمقراطيّة عربيّة إسلاميّة خاصّة، يمكن فهمها إذا استُوعِبت منطلقاتها المتمثّلة في ثلاث نقاط:

      أولاً: المنطلق الديني الإسلامي الأصولي بشِقّه الثقافي بوصفه جزءاً لا يتجزّأ من المنظومة المعرفيّة العربيّة.

      ثانياً: المنطلق العربي بمكوّناته التراثيّة كلّها سواء ما كان منها قبل الإسلام أم بعده.

      ثالثاً: مجموعة المعارف الثوريّة الجديدة القادمة من أوروبا.

إنّ ذلك كلّه تفاعل وتآزر وانصهر ليكوّن تصوّراً جديداً حول ديمقراطيّة خاصّة. لكنّ المنطلق الأساسي لاستخراج الديمقراطية عند الكواكبي كان الدين الإسلامي، حتّى ولو اضطره ذلك، أحياناً، لأنْ يقسر المنطلقات الأخرى لتتوافق معه، بحيث تبقى السلطة التشريعيّة للقرآن الكريم أساساً، وقبل كلّ شيء آخر. وإذا كانت الديمقراطيّة الأوروبيّة هي حكم الشعب، فإنّ الكواكبي إنّما يريد حكم الشعب، ولكن عن طريق التزامه بحكم الشرع. وهكذا نجد أنّه يطالب بمبادئ الديمقراطيّة نفسها، التي لم يعرفها العرب المسلمون كواقعة فعلية، بعد الخلافة الراشديّة، وإن طالبوا بها كمبادئ.

فإذا كانت أهمّ عناصر الديمقراطيّة هي: الانتخاب والمجالس النيابية والمراقبة والحرية والمساواة… فإنّ الكواكبي قد طالب بذلك كلّه وإن يكن ذلك بكلمات أخرى. فهو إذن ديمقراطي، ولكنّ ديمقراطيته تختلف عن الديمقراطية الغربيّة، التي يجد أنّها تفتقر إلى الجانب الروحي الذي لا يمكن أن يحييه، ويحافظ عليه إلا الشرق. إنّ ديمقراطيّته مستوحاة من القرآن والسنّة. ولهذا سمّيت ((الإسلامية))، والاختلاف بينها وبين الديمقراطية الأوروبية اختلاف لابُدّ منه، إذا ما أُريد أن تكون انطلاقة الديمقراطية انطلاقة صحيحة، تراعي وضع البلاد التي تنتجها، وظروف الناس الذين تعيش بهم. وإذا كان هدف الديمقراطيّة هو خدمة المجموع، أي إجراء المصلحة العامة، فإنّ الفقهاء قد أجمعوا على أنّ مصلحة الأمّة تفضُل مصلحة الفرد. وإذا كانت الحريّة هي نتيجة النظام الديمقراطي، فإنّ مطلبنا منها ليس هو الحريّة السياسيّة وحدها، بل لها مضمون اجتماعي لتكون ديمقراطيّة صحيحة. من ذلك كلّه يتضح أنّ الإسلامية تطالب بما تطالب به الديمقراطية نفسها، مع اختلاف نسبي. فالإسلاميّة (= الديمقراطية)، بمفهومها الإسلامي، تمتد لتشمل العلاقات بين الأمم، والحكومات، والأديان. وتشترك مع الديمقراطيّة الأوروبيّة بأنّ كلاًّ منهما ليس نظاماً سياسيّاً فحسب، بل هو نظام يشمل نواحي الحياة كلّها. فالديمقراطية أسلوب سياسي، وفكري، واقتصادي…فإذا كانت الإسلامية

إنّ العلمانية تفصل بين الدين والدولة فصلاً تامّاً، بينما يضع الإسلام منهاجاً عامّاً للدولة، بما في ذلك مؤسسة الحكم

تعتمد على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة والشورى، ومن دعائمها وجود أهل حل وعقد قادرين على إنفاذ كلمة الأمة. وإذا كانت مبادئ الديمقراطيّة الغربية هي الحرية والعدالة والمساواة، لتحقيق مبدأ حكم الشعب نفسه بنفسه، ومن دلائلها وجود مجلس نواب. فإنّ الإسلامية هي الديمقراطيّة. لكنّها ديمقراطيّة معدّلة، ممّا أمكنه تسميتها " ديمقراطيّة تماماً "، تستند إلى الإسلام أكثر من استنادها إلى العروبة.

إنّ العلمانية تفصل بين الدين والدولة فصلاً تامّاً، بينما يضع الإسلام منهاجاً عامّاً للدولة، بما في ذلك مؤسسة الحكم. لقد ميّز الإسلام بين الدين والدولة، فالمأمول الفصل بين الدين والدولة، لأن عبارة فصل الدين عن الدولة تعني أن الدين ملحق بالدولة، وعبارة فصل الدولة عن الدين تعني تابعية الدولة للدين، في حين أن لكل منهما مجالاً مختلفاً عن الآخر، وهما متكاملان عندما ندرك أن كلاً منهما له كيانه الخاص، والدعوة إلى فصل السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية) تبقى فصلاً يقبل التكامليّة وينفي أيّ انفصال كامل بينها، حتّى لا تضيع المسؤولية.

كلمات مفتاحية