لم يعد الزيت والزيتون يسدان رمق المزارعين في الساحل السوري، بعدما تحول الموسم الحالي إلى الأسوأ منذ عقود، وفق ما يؤكده الفلاحون الذين اعتادوا أن يروا في الزيتون رمزاً للبركة والعطاء.
يستعد سكان القرى لجني محاصيلهم، لكن المشهد الذي كان يوماً مليئاً بالتفاؤل تغيّر، وحل مكانه إحباط واسع بسبب ضعف الإنتاج وارتفاع التكاليف، ما جعل كثيرين يصفون الموسم بـ"الكارثي".
يقول مزارعون التقاهم موقع تلفزيون سوريا إن تراجع خصوبة الأرض، وقلة الأمطار، وغياب الدعم الحكومي، إضافة إلى ارتفاع أجور العمال وتكاليف المعاصر، كلها عوامل دفعت بزراعة الزيتون إلى حافة الخسارة، وهددت مصدر رزق آلاف العائلات التي لا تملك مورداً آخر غير الزيت والزيتون.
موسم الزيتون "الأسوأ" في سوريا
كثير من المزارعين في الساحل تفاجؤوا بأن الموسم الحالي ضعيف للغاية، حتى إن عددا كبيرا منهم جزموا أن هذا الموسم هو الأسوأ إنتاجية منذ عشرات السنين. "تلفزيون سوريا" التقى عددا من المزارعين والخبراء وأصحاب كروم الزيتون، الذين تحدثوا عن أسباب تراجع إنتاج الزيتون خلال السنوات الأخيرة.
"أبو سامر"، وهو مزارع من ريف جبلة، يؤكد أن شجر الزيتون لم يعد مثل ما كان في الماضي، معتبرا أن مواسم الخير بدأت تتراجع عاما بعد عاما، لعدة أسباب. ويضيف: "كنا قبل عدة عقود نجمع إنتاجا رائعا من أرض صغيرة للغاية، وما كنا ننتجه من عشرين شجرة زيتون، بتنا الآن نحتاج لخمسين شجرة كي ننتجه".
ويكمل: "البركة ليست كما كانت، لا أدري الأسباب الحقيقية وراء تراجع إنتاج الزيتون، لكنني متأكد أن الإهمال وتغير المناخ سببان رئيسيان وراء معاناتنا مع أشجارنا، وهو ما ظهر واضحا في الموسم الحالي".
أشياء تفتقدها شجرة الزيتون في الساحل
"مؤيد"، شاب من ريف اللاذقية، يرى أن الإهمال هو السبب الأساسي الذي يقف وراء تراجع قطاع الزيتون في سوريا عموما وفي الساحل تحديدا، معتبرا أن الناس في الفترة الحالية اختلفوا كثيرا عن الأجيال السابقة التي كانت تمتلك خبرة كبيرة في الزراعة وحبا استثنائيا للأرض.
ويقول: "باستثناء قلة الأمطار، كل الأمور من الممكن تداركها، فبإمكاننا تقليم الأشجار في الوقت المناسب، وحراثة الأرض في مواعيدها، كما يجب الاهتمام بالمنطقة المحيطة بالشجر كي لا نساعد الأمراض على الانتقال بسهولة نحو أشجار الزيتون".
ويتابع: "هناك الكثير من الأمور يمكن أن نساعد بها أشجارنا، كأن نرويها ولو بكميات قليلة في فترة أواخر الربيع، لنقلل فترة انقطاع الماء عنها، كما يمكننا تغطية التربة حول جذوع الأشجار بأغصان أو أعشاب كي نخفف الحرارة ونطيل عمر الرطوبة في التربة، ما يسمح للشجر بالإثمار بشكل أفضل".
أما "أبو علي"، مزارع قديم من ريف بانياس، فيشير إلى أن شجرة الزيتون لم تكن في الماضي بحاجة لما تحتاجه الآن، فالسماد بات ضروريا وفق قوله، إضافة إلى السماد العضوي والتقليم المستمر والري.
ويوضح: "خصوبة الأراضي انخفضت بشكل كبيرة، وبتنا بحاجة إلى التحايل على الأشجار كي نرفع حجم الغذاء الموجود في التربة، وإلى دعمها بأسمدة وغيرها، كما أصبحنا نخفف من حجم الشجرة لتتناسب مع ما تقدمه لها التربة من غذاء".
ويتابع: "ضعف الحالة المادية للمزارع انعكست كثيرا على شجر الزيتون وعلى كثير من الزراعات، وللأسف الكثير من المزارعين أهملوا أراضيهم وحولوها إلى أراض غير صالحة لأي نوع من الأشجار".
عوامل تؤثر سلبا على الزيتون السوري
شجر الزيتون يمر بدورات إنتاج متباينة، ففي سنوات الإنتاج الكثيف، لا يراعي المزارع العناية الكاملة من تقليم أو تسميد، ما يؤدي إلى انخفاض كبير في الإنتاج في السنة التي تليها، إضافة إلى أن ارتفاع تكاليف الإنتاج من الأسمدة والمبيدات، أجبرت المزارعين على عدم استعمالها في الكثير من الأوقات، عدا عن ارتفاع أجور العمال خاصة في موسم القطاف، ما يزيد تكلفة الجني ويقلل الربح الصافي.
"عبدالله" مهندس زراعي من طرطوس، يتحدث عن أسباب إهمال الزيتون، مؤكدا أن هناك عوامل طبيعية وأخرى بشرية، فالظروف المناخية وتغير الطقس برأيه من أهم الأسباب، حيث يعد نقص الأمطار خصوصا في فترات حاسمة مثل الإزهار والتلقيح، عاملا مؤثرا على إنتاج الثمار، ترافقه تغيرات كبيرة في درجات الحرارة، كتقلب الحرارة بين ليل ونهار، والحر المفاجئ أو البرد الشديد.
ويقول: "كثير من المزارعين لا يقومون بتقليم الأشجار في الوقت المناسب، كما يستغنون عن الأسمدة الكيميائية والطبيعية، ولا يقومون برش المبيدات بسبب التكلفة العالية".
ويتابع: "من العوامل الأكثر إزعاجا بالنسبة لي، هو أن بعض المزارعين يقطفون الثمار قبل نضجها بالشكل المطلوب، ما يقلل كثيرا من نسبة الزيت وسماكته، وبرأيي فإن تأجيل القطاف لما بعد الأمطار أمر يساعد في زيادة الإنتاجية".
الفواكه الاستوائية تهدد أشجار الزيتون
في الآونة الأخيرة، بات الناس يتجهون نحو زراعة الاستوائيات بشكل كبير، كأشجار الأفوغادو والجوافة والموز وغيرها، ما أثر إلى حد ما على زراعة الزيتون، خاصة وأن أسعار الفواكه الاستوائية مرتفع كثيرا قياسا بأسعار الزيتون.
ويؤكد عدد كبير من سكان الساحل أن ظاهرة استبدال الزيتون بالموز والأفوغادو باتت منتشرة كثيرا في السنوات القليلة الماضية، معتبرين أن النجاح الذي حققته الاستوائيات بالتزامن مع تراجع إنتاجية الزيتون، كان السبب الرئيسي وراء الظاهرة.
"يارا"، مهندسة زراعية من اللاذقية، توضح أن من الأسباب التي أدت إلى تراجع إنتاجية الزيتون هو الجفاف الذي تشهده البلاد منذ عدة سنوات، خاصة وأن تراكم سنوات "الأمطار القليلة"، أدى إلى ظهور نتائج الجفاف بشكل واضح في الفترة حالية.
وتضيف: "قطع أشجار الزيتون للتدفئة أو لتجارة الحطب بات أمرا شائعا للأسف، وسط تجاهل غريب من الناس لخطورة الظاهرة، ما أدى إلى انخفاض أعداد الأشجار بشكل كبير".
ويقول "ياسر" من ريف جبلة، إنه ترك قريته وتوجه نحو المدينة منذ عدة سنوات كي يعمل في التجارة، مشيرا إلى أن العمل في الأرض عموما ليس فيه إلا ضياع الوقت وقلة المدخول.
ويردف: "أنا موظف حكومي لا يمكنني العمل في الأرض، وفي الفترة الأخيرة أصبح كل مدخولنا يذهب أجارا للعمال، جراء ارتفاع الأجور من جهة، وكثرة ما تتطلبه الأشجار من جهة أخرى، كالأسمدة والأدوية والمياه".
ويتابع: "لا ننسى هنا أجور المعاصر التي باتت مرتفعة إلى درجة كبيرة قياسا بتكاليف إنتاج الزيت، فالمعاصر تحقق أرباحا كبيرة على حساب الفلاح الذي يقضي كل أيام السنة بين الأشجار ليأتي صاحب معصرة ويقاسمه الربح".
تحديات اقتصادية ومطالب الشعبية
معظم من قابلناهم في الساحل السوري أكدوا أن انخفاض الدخل وفقدان القدرة الشرائية للأسر، قللا من الاستثمارات في الزراعة، حيث ترك بعض المزارعين أراضيهم وقللوا من العناية بها، نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية.
معظمهم طالبوا بتخفيض تكاليف المعاصر وتشديد الرقابة عليها كي لا تسرق من إنتاج المزارع، وتوفير السماد بأسعار مناسبة ومدعومة، إضافة إلى رش الكروم والأشجار بالمبيدات والأدوية عبر الطيران أو بتسليمها للمزارعين مباشرة، مع تخفيض أسعار المحروقات المخصصة للعناية بالزيتون.
كما طالبوا برفع أسعار الزيوت إلى حدا ينصف الفلاح ولا يضر بالمستهلك في نفس الوقت، معتبرين أنه من دون هذه الخطوات، قد يتحول موسم الزيتون من رمز للعطاء إلى عبء على الفلاح.







