الزيارة الأولى لقبو يقع فوق سطح الأرض بآلاف الكتب

2018.07.27 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

(من ذكرياتي مع عبد القادر عبد اللي)

بالنسبة لنا، نحن أصدقاء وجيران وأقارب وزملاء الراحل عبد القادر عبداللي (من الأدالبة) نعتبره مدخلاً رئيسياً لفهم أيّ شيء يمت بصلة لتركيا، على الأصعدة كافتها، سياسياً وثقافياً وأدبياً وحتى تجارياً وجغرافياً، ويصل الأمر إلى معرفة العائلات التي قسمتها الحدود بين الدولتين منذ ما يقارب الـ 100 سنة، وقصصها وحكاياتها في الداخل السوري أو الداخل التركي، بأفراحها ومآسيها، التي فرضتها السياسة تارة والجغرافيا تارة.

أغلبنا عموماً ليسوا قراء محترفين، أو ناشطين في المجال الثقافي أو الأدبي أو السياسي، رغم هذا شكلتْ لقاءاتنا شبه الدائمة في بيت الراحل، وفي بيوت المعارف من الأدالبة معه، فرصاً غنية يخرج أحدنا منها معبَّأً بمعلومات مهمة وشيقة وشهية للعقل والروح.

ومنذ نزوحنا فرادى ومجموعات إلى تركيا بسبب الحرب، حافظ العبدللي داخل ذاكرتنا على مكانته تلك، وصرنا نتكئ عليه خلال أيّ موقف نتعرض له في الأراضي التركية، والمجموعة الهائلة من المعلومات الهامة التي منحنا إياها خلال لقاءات استمرتْ لأكثر من عقدين ونصف، كانت خير عكازٍ لنا في حياتنا التركية الجديدة.

ولا يكاد يخلو اجتماع لنا أو سهرة أو لقاء في تركيا من تواجد طيف عبد القادر عبداللي بيننا.

هذا أو ذاك، أنا أو أنت، أحياناً صديق بعيد أو قريب...إلخ،

مع سنواتنا التركية صار الراحل عبد القادر مرشدنا الأول بين الشوارع التركية، ولو عبر الهاتف. بعد أن فرقنا انتشارنا في المدن التركية.

يتصل بالراحل لفهم شيء ما اعترضه في حياته التركية (ما رأيك أن نتصل بـ عبد القادر ونسأله عن هذه، أخبرني أبو الخير من زمان أنا هذه تعني..، العبدللي متأكد من هذا كما قال لي.. الخ)

وبهذا، مع سنواتنا التركية صار الراحل عبد القادر مرشدنا الأول بين الشوارع التركية، ولو عبر الهاتف. بعد أن فرقنا انتشارنا في المدن التركية.

وهذا ــ يخيلُ لي ــ أنه أبعد بكثير مما يمكن أن نسميه مهنة الترجمة، أو احتراف الترجمة.

أتذكر قول أحد الأصحاب بخصوص هذا حول عبد القادر عبداللي: (إنه يفهم تركيا أكثر من الأتراك أنفسهم) ومعه كلّ الحق، سبق لي من خلال اختلاطي بالشعب التركي في إقليم هاتاي (لواء اسكندرون) أن يتفاجأ الأتراك بثقافتنا الجيدة ومعرفتنا بتفاصيل مهمة حول تاريخ هذه المدينة وعائلات تلك المنطقة، وطبيعة الأحزاب والطوائف وتاريخها وخصوصيتها في هذا المكان.

كلّ هذه الأشياء وأشياء أخرى جالتْ في خاطري وأنا أقرأ كتاباً مهماً عن الراحل عبد القادر عبد اللي، عنوانه (تركيا بعيوني) أعده صديقنا البروفسور التركي محمد حقي صوتشين أستاذ اللغة العربية والأدب العربي في جامعات أنقرة، وقد أصدرته (مشكورة) دار ميسلون، ووصلتني نسخة منه كهدية من السيدة سميرة بيراوي زوجة الراحل، صديقة القديمة لوالدتي.

في هذا الكتاب الجميل، لفت انتباهي قضية مهمة يثيرها الروائي التركي (أورهان باموق) الحائز على جائزة نوبل 2006 في حوار أجراه معه عبد القادر عبداللي.

يقول ما معناه: الأدباء العرب الذين ترجمت رواياتهم إلى التركية، كان عن طريق لغة وسيطة (الإنكليزية غالباً، وأحياناً الفرنسية) كذلك الأمر بالنسبة لعدد جيد من الروايات التركية التي ترجمت للغة العربية في زمن بعيد وزمن غير بعيد، كانت عن طريق لغة متوسطة،  هل من المعقول أن تتعرف ثقافتان جارتان على بعضيهما عن طريق أوروبا، وهل من المعقول أن لا تصل إبداعات الأمم إلى بعضها البعض دون هذا الوسيط، وكأنه يقول (بما يشبه الاستنكار) بالنسبة لدول العالم الثالث، يبدو أن آدابها وإبداعها لن يصل إلى الأمم الأخرى إذا لم تُزَكِّه أوروبا، بحسب ذائقتها وميولها الخاصة بها لا الخاصة بتلك الأمم.

بصراحة، لا أعرف كيف أكتب عن الذين افتقدتهم في حياتي، أولئك الذين يشكلون جزءاً مهماَ منها، لهذا.. لطالما حسدتُ نوعاً من الشعراء، أولئك الذين يكفي أن نعطيهم اسم الراحل ليكتبوا فيه قصيدة رثاء لا تنسى. أحياناً، في سهرات الوحدة، يتداخلان في ذاكرتي، فيصعب عليّ التمييز جيداً بينهما.

عبدالقادر عبداللي وأبي "تاج الدين الموسى"، تلك الصداقة الحميمية والنادرة التي جمعتهما مع بعض لأكثر من عقدين ونصف، وامتدتْ لتشمل العائلتين أيضاً، مع صديقهم الكاتب الساخر المعروف خطيب بدلة وعائلته أيضاً، كان عبد القادر بالنسبة لأبي أكثر من أخ، وبالنسبة لي أباً ثانياً. نزور في حياتنا بيوتاً كثيرة، منها ما ننساه ومنها ما يظل عالقاً كلوحة جميلة على حيطان ذاكرتنا. قبو عبد القادر عبداللي من النوع الثاني، من يزوره يكتشف أن هذا القبو بسبب صاحبه يقع عالياً عن سطح الأرض.قبو تنزل إليه بعدة درجات، وتصعد إليه بعدة كتب. مهما مرّتْ السنوات ثمّة زوايا في الذاكرة لا تمحى، منها: زيارتي الأولى لبيت الراحل. كنتُ طالباً في المرحلة الإعدادية، وفي زيارة عائلية لبيتنا أخبرتهم أمي عن المتاعب التي يسببها ابنها المراهق لها، نظر إلي أبو الخير وقال: تعال غداً إلى بيتي..

وقتها كان أبو الخير مدرساً في معهد الفنون، ولديه في الصيف عطلة، وفعلاً تمشيتُ ظهر اليوم التالي إلى بيته وكان يسكن في قبو قريب من السوق، خلال الطريق كنتُ أفكرُ بما سأقوله له، وكما جرتْ العادة، كلّ صديق للعائلة تشكي له أمي مشاكلي. سوف يرميني بأطنان من النصائح، خلال الطريق جمعتُ في ذهني كلّ الصفات السلبية العلمية وغير العلمية للأمهات في العالم، لأقولها أمامه بمجرد أن يبدأ بنصحي كما هي عادة أصدقاء العائلة، لكن، الذي حدث كان غير هذا تماماً.

جلستُ معه في غرفته المكتظة بالكتب، كان خلف طاولته مشغولاً بأشياء كثيرة، تنضيد مقالة، ترجمة جملة، تصفح كتاب.. الخ.

عندما توفي أبي في 2012 شعرتُ بأنه قد مات للمرة الأول. عندما توفي عبد القادر عبداللي في 2017، شعرتُ أن أبي قد مات للمرة الثانية.

حدثته عن كتاب ترجمه منذ فترة قصيرة (آنذاك) وأهدى نسخة منه لوالدي، وقد تأثرتُ بهذا الكتاب كثيراً، كتاب (صوم الموت) لمجموعة من السجناء السياسيين الأتراك، وتناقشنا في جلسة حميمية لا تنسى حول هذا الكتاب وكتب أخرى.. حديثه كان رائعاً، قريباً من القلب.. معلومات مهمة وغزيرة يقولها صاحبها بثقة عالية، بنبرة صوت مميزة، تتلوها أحياناً فكاهة أو سخرية، وغالباً ما تكون لاذعة، بدا لي وقتها أنه ليس ككل أصدقاء العائلة، ليس من سكان هذا الكوكب، إنما من سكان كوكب آخر، كوكب جميل. عندما توفي أبي في 2012 شعرتُ بأنه قد مات للمرة الأول. عندما توفي عبد القادر عبداللي في 2017، شعرتُ أن أبي قد مات للمرة الثانية.

ــ ملاحظة: كتاب (تركيا بعيوني) يضم عدداً كبيراً من المقالات التي كتبها الراحل، حول الثقافة والأدب والفنون في تركيا، أعده د. محمد حقي صوتشين، وصدر عن دار ميسلون للطباعة والنشر 2018

ــ ملاحظة 2: كتاب (صوم الموت) من الكتب المهمة التي ترجمها عبد القادر عبداللي منذ ما يقارب ثلاثة عقود، وهذا الكتاب لم يطبع أصلاً بلغته الأم (التركية) ولا حتى بالعربية بعد ترجمته، وهو عبارة عن مذكرات بطولية شبه يومية لسجناء سياسيين يضربون عن الطعام حتى موتهم واحداً تلو الآخر، حيث ترافقهم الأوراق والأقلام وهم يموتون ببطء في سجون الانقلابات العسكرية التركية، في ثمانينات القرن الماضي، وقد جرى تهريب هذه الأوراق إلى سوريا سراً آنذاك، حيث ترجمها عبد القادر عبداللي إلى العربية، احتراماً منه لأرواح أولئك السجناء الذين قضوا نحبهم في الزنازين، لم يُطبع الكتاب رسمياً في أي دار نشر عربية رغم أهميته (الإنسانية، على الأقل) وقد طبع مترجمه بضع عشرات من النسخ في مكتبة خاصة، ثمّ وزعها على أصدقائه من المقربين مطلع تسعينيات القرن الماضي.