icon
التغطية الحية

"الزجل" حين يكتب تاريخ بلاد الشام

2022.01.27 | 18:00 دمشق

zjl11.jpg
من لوحات المستشرقين (إنترنت)
أحمد عبد الحميد
+A
حجم الخط
-A

برعت بلاد الشام بفنون شعبية كثيرة شكّل الشعر المحكي (الزجل) واحداً من أهمها، إذ اعتبر وثيقة حياتية تعكس الواقع اليومي للناس وأفكارهم وهمومهم، إضافة إلى توثيقه حوادث يومية درجت على الألسن في حقبة زمنية معينة، خاصة أنه جعل من اللغة العامية المحكية عمادًا لانتشاره، ما ساعد في وصوله وشيوعه في الأوساط الشامية، لا بل تجاوز الأمر ليصنع من نفسه مركزًا توثيقيًا لأحداث اجتماعية لاقت تفاعلًا واسعًا، وبدأ بالتطور من عصر إلى عصر حتى استطاع متابعة مواكبة أحداثٍ عصرية متنوعة، والوقوف على مواضيع عاطفية.

الزجل الأول.. سيطرة الأحداث الدينية

لعل أقدم ما نملك من الزجل المدوّن هو ما ثبته "جوزيف أبي ضاهر" في كتابه (صنّاع الفرح) الصادر عن مركز التراث اللبناني، والذي يعد واحدًا من أهم الكتب التي تناولت هذا الفن، وتحدث فيه عن ارتباط الزجل بداية بالدين والتأريخ فقط، كقصيدة لـ "سليمان الشلوحي" تعود للعام 1289م، وهي قصيدة محفوظة في مكتبة الفاتيكان، وتتألف من ستين بيتاً في رثاء طرابلس وتفجّع على مصيرها بعد فتحها وطرد الفرنجة (الصليبيين) منها:

"وياحزن قلبي ومايخلي من أحزان

والقلب من الحزن شاعل بنيران

قلت يادار العز  ماصابك

أصيح فيك ما أحظى بإنسان".

ثم يرصد "أبي ضاهر" ظهور زجالين آخرين، منهم "سرجيس السمار جبيلي" الذي ألّف في القرن السادس عشر مرثيتين شهيرتين، الأولى حول الحرب القبرصية والثانية بالحرف الكرشوني عن أحداث مدينة طرابلس، وكذلك الخوري عيسى الحزّاز الذي ألّف مدائح وتراتيل دينية في كتيب من ثمانٍ وأربعين صفحة.

الزجل الحديث.. تأريخ للوقائع

وتَتابع تأليف العديد من الكتب، التي تناولت الزجل وتاريخه  فنذكر أيضًا على سبيل المثال: "كشكول الزجل حافظ تراث اللبنانيين وابن الناس الطيبين" وهو مجموعة ورقات جمعتها "غنى مؤنّس"، وصدرت عن "مركز أوال للدراسات والتوثيق"، إذ استحضرت في طيات صفحاتها ظاهرة نقدية للواقع والخوض في غمار السياسة، وخاصة في أعقاب انتخابات 25 أيار 1947 بعد  الاستقلال من فرنسا، وكانت أشهر انتخابات نيابية في لبنان لما تخلّلها من تزوير وتلاعب وإرهاب، راجت ردّة زجل توثّق أحداث ذلك اليوم:

"يا حِسني بعد اللي صار

في خمس وعشرين أيار

صرنا بعهد الاستقلال

نترحم على الاستعمار"

ثم في أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية راح الزجل يعبر عن الأحداث الدامية، ويوثقها تأريخيًا كحادثة "عين الرمانة" الدامية في نيسان 1975، وكانت آنذاك  عاصفة الحرب الأهلية قد دمرت أسس التعايش بين اللبنانيين وأغرقتهم في طوفان من الدماء، يخلد الشاعر الشعبي "كميل خليفة" واقع الحال في هذه الأبيات:

"إبدا بعين الرمانة

 بالتاريخ خلَيفاني

بدنا نوح بفلكو نسوح

 بها الطوفان اللبناني".

وقد يتجاوز التأريخ حوادث عالمية تناولها الزجالون بردّات زجلية متداولة، فَتَحتَ عنوان (الشعب يؤلف تاريخه) عادت "غنى" في لقاء جمع من المثقفين حاولوا تذكر زمان هبوط الأميركان على سطح القمر، ليفاجئهم أحد الحاضرين بأن الشيخ علي الزين كان يؤرّخ كل ما يحدث في كل سنة بردّة زجلية، وهو يقول عن سنة 1969:

"(التسعة وستين) هالسنة شح المطر

فقر وغلا و(مالوش) بالحقْلة انتشر

 فيها اليهود جالوا وصالوا عالمطار

وفيها أميركا نجست وجه القمر".

ووفقًا للأديب اللبناني سلام الراسي، أن الشيخ علي الزين قدّم تأريخًا لخمسة أحداث في ذلك العام، تتراوح بين شعبية ومحلية وعالمية وتاريخية معًا، وهم: الأول شح المطر، والثاني الفقر والغلاء، والثالث لانتشار المالوش في الحقول (وهي حشرة تقضم جذور المزروعات)، والرابع الهجوم الإسرائيلي على مطار بيروت، والخامس هبوط (آرمسترونغ) الأميركي على سطح القمر.

تنوّع الزجل وشيوعه في بلاد الشام

نستطيع القول أنه بعد القرن السادس عشر تحرّر الزجل من المواضيع الدينية، ثم راح يتأثر بالمواضيع المحلية متخذّا اللهجات المحلية للتعبير. ومع مطلع القرن العشرين شهد الزجل نهضة كبيرة ومتميزة، فأصبح أكثر احترافًا بفضل أمير الزجل اللبناني رشيد نخلة مؤلف النشيد اللبناني الوطني، فانتقل الزجل إلى الشارع والحفلات والاجتماعات والمسارح، وأخذ يستقر أكثر ويتناول بعدًا تنظيميًا، فانتشرت الجوسات والزمرات وهي مجموعة زجالين يتبارون، وراح الفن يرتقي أكثر ويُتخذ أشبه بمهنة، وبدا الاهتمام به ملاحظًا، فجمع أنطوان الخويري في كتابه (تاريخ الزجل اللبناني) طرائف وفكاهات زجلية، منها حوار بين أسعد السبعلي وأمين رزق الله عند زيارتهما أحد أديرة الراهبات في الشمال، حيث يخاطب السبعلي راهبة الدير، قائلًا:

"زاركِ شاعر مواهب

من شِعرو بيحنّ الطير

إن كان دَيرك بدو راهب

حاضر يا رئيسة الدير".

فأردف إيميل معترضًا:

"قلوب الطهارة حنّوا

لديركِ وبقدسو تفنّو

إن رهّبتي أسعد بالدير

ملايكتو بتهشل منو!".

بعد انتشار الزجل وشيوعه في فلكلور بلاد الشام، يبدو أنه بدأ يحظى أيضًا باهتمام غربي لوحظ في زيارة :موريس بارّيس" الأديب الفرنسي، الذي صرّح أثناء زيارته لرشيد نخلة  في لبنان عام 1914: "حاليًا بت أعرف ما كنت جاهله، صرت أعرف أنكم أنتم الشعراء الشعبيون تعيشون بين الناس، فيما نحن الشعراء الآخرون نعيش في كتبهم".

إلا أن عوامل عدة لعبت دورًا في وهذا الازدهار وشيوعه وخاصة المنبر الزجلي اللبناني، لعل أهمها الاستقرار النسبي الذي شهدته البلاد طيلة عقود من السنين والجو الديمقراطي النسبي، واستمرار الريف اللبناني في لعب دوره كولّادة للزجالين، رغم أن الزراعة قد بدأت تخسر موقعها الرئيسي في تشكيل الدخل وبدأ نمط الحياة الريفية يشهد تحولات وهجرات واسعة من بعض مناطق الريف جراء الضغوط الاقتصادية أو السياسية الأمنية، وهجرات إلى أماكن لا يمكن أن تعيد إنتاج الحياة الريفية ومناخاتها الحاضنة لمواهب الزجل، في الفترة نفسها شهدت منطقة المثلث الذهبي للزجل المنبري ونقصد (لبنان وسوريا وفلسطين) أحداثًا دراماتيكية بدءًا من النكبة الفلسطينية التي دمّرت الريف الفلسطيني وهجّرت الفلاحين وتحطم خلالها النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وما تلا ذلك من هجرة الزجل نحو لبنان، أو تسخيره مع من بقي سياسيًا في الحراك الثوري في المدن الفلسطينية، إذ أبدع تلميذ القسام نوح إبراهيم الذي صدر بحقه قرار عسكري عام1936 يمنع قصائده بسبب زجلية شاعت في الأراضي الفلسطينية، وحوّلت الانتداب البريطاني إلى مادة للسخرية والضحك، ثم أدت تلك القصيدة والتي عنّونها ب "جون دل" لاعتقاله.

أمّا في عكا، فقد كُشفت قصيدة ثورية محفورة بأداة حادة على جدران إحدى الزنازين للشاعر الشهيد عوض النابلسي، خطّها في ليلته الأخيرة قبل إعدامه بساعات يقول فيها مخاطبًا زوجه:

"وأم ولادي كيف بدها تقضي نهارها

ويلها علي أو ويلها على صغارها

وياريت خليت بإيدها سواره

يوم دعاني الحرب تاشتري سلاحه".

 فيما بدّد انقلاب حسني الزعيم في سوريا وما تلا البلاد من مرحلة طويلة من اللاستقرار السياسي واضطراب مناخ الحريات، ازدهار الزجل المنبري الذي يفترض أن يتناول الظواهر السياسية والاجتماعية عكس لبنان التي ساعدت مناخات الحريات وخاصة السياسية والدينية في التباري على المنابر، بروح طيبة بعيدة عن أي تعصب ديني أو طائفي، والدليل أن الزجل المنبري عبّر عن التجربة المريرة للحرب الأهلية وتجاوز حدود انقطاع المدن والمناطق، وترسّخ في الريف الذي لعب دورًا مهمًا في تطوره.