الركود الاقتصادي القادم: من أسواق المال إلى أثر روتردام

2022.06.01 | 06:00 دمشق

5f3490654cc99.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل عام واحد تقريبا كان الاقتصاديون في العالم يحتفلون بالانتعاش السريع للاقتصاد العالمي بعد حالة الركود التي رافقت جائحة كورونا، والتي تسببت في وقف النمو في معظم اقتصادات العالم بالإضافة إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي في العديد من الدول المتقدمة.

شكلت حالة الانفتاح الاقتصادي بعد تقلص تأثير جائحة كورونا فرصة لاستعادة معدلات نمو الاقتصاد العالمي على الرغم من المشكلات التي رافقتها كارتفاع أسعار الطاقة ومشكلات سلاسل التوريد وارتفاع معدلات التضخم.

ولكن مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، انقلبت الأمور رأسا على عقب مع الصدمة غير التقليدية التي أصابت الاقتصاد العالمي الناتجة عن الاختلالات في أسواق الطاقة وسلاسل التوريد، والارتفاعات الهائلة في أسعار الغذاء ومعدلات التضخم.

دخلت الأسواق المالية في حالة من التقلبات غير التقليدية، حيث شهدت أسواق السندات حالة من انعكاس منحني العائد حيث ارتفع عائد السندات الأميركية واليابانية القصيرة الأجل على حساب السندات الطويلة الأجل، في حين شهدت أسواق الأسهم حالة من السوق الهابط مع سلسة من التراجعات القياسية أدت إلى تكبد كبرى الشركات خسائرَ فادحة.

أما أسواق العملات الرقمية فقد تعرضت لضربة قاضية، حيث يتم تداول البيتكوين حاليا دون مستويات 30000 دولار، مع احتمالات الانخفاض إلى حدود 8000 دولار، في حين ذهب بعض الاقتصاديين وكبار المستثمرين إلى أن الحالة التي يمر بها الاقتصاد العالمي حاليا قد تنهي فكرة العملات الرقمية.

أما الذهب فكان أكبر الرابحين فقد ظهر دوره كملاذ آمن في زمن الأزمات الاقتصادية، فعلى على الرغم من كل سياسات التشديد النقدي التي تقوم بها كبرى البنوك المركزية في العالم تجاوز الدولار الحاجز التاريخي عند 2000 دولار للأونصة قبل أن ينخفض حيث يتم تداوله حاليا فوق مستويات 1850 دولارا للأونصة.

أما الأسواق الناشئة فقد تعرضت عملاتها لضغط شديد حيث انخفضت الليرة التركية بنحو 10 % في مايو الحالي فقط حيث انخفضت إلى أدنى مستوياتها منذ ديسمبر 2021 عند 16,4 للدولار الواحد.

أما الجنيه المصري فقد انخفض إلى أعلى من حدود التعويم الأخيرة عند 18,60 على الرغم من قيام المركزي المصري برفع الفائدة بمقدار 300 نقطة أساس منذ آذار الماضي.

كل المؤشرات السابقة تقود إلى استنتاج واحد هو أن الأسواق تتوقع ركودا اقتصاديا قادما أدى إلى تقلص شهية المخاطرة واندفاع المستثمرين باتجاه الملاذات الآمنة ومصادر الدخل الثابت على حساب الأسهم والأصول العالية المخاطرة.

في هذه المقالة سنلقي الضوء على مفهوم الركود ونحلّل العوامل التي قد تتسبب به ونشرح كيفية تأثيرها على الصورة الكبرى للاقتصاد العالمي:

1- ما هو الركود الاقتصادي:

يتم تعريف الركود الاقتصادي من منظورين مختلفين، فمن منظور الدول النامية يتم تعريف الركود الاقتصادي: بأنه انكماش الناتج المحلي الإجمالي العالمي لربعين متتاليين من العام، أما في الدولة المتقدمة يفتم تعريفه على أنه: انخفاض كبير في النشاط الاقتصادي ينتشر عبر كل القطاعات ويستمر لأكثر من 3 أشهر، تاريخيا حدثت أزمات الركود الاقتصادي في 1975، 1982، 1991، 2009، 2020 حيث كانت السمة الجامعة لهذه الأزمات هو انخفاض الدخل الحقيقي للأفراد على مستوى العالم.

2- خلف منحني التضخم:

في الولايات المتحدة حيث الاقتصاد الأكبر في العالم، ما زال الاقتصاد يعاني من إرث أزمة كورونا نتيجة سياسة التيسير النقدي وطباعة الدولار وضخه في الأسواق، ومع استمرار ارتفاع أسعار الطاقة ونمو سوق العمل ومعدلات تضخم قياسية (8,3%) اعترف الفيدرالي الأميركي بتأخره عن مواجهة التضخم وانتقل إلى تشديد السياسة النقدية.

حيث أعلن جيروم باول أن الفيدرالي سيستمر في رفع الفائدة حيث يرى مؤشرات عودة التضخم إلى الهدف المستهدف عند 2%، حيث قال إنه لا يضمن حدوث ذلك بسلاسة ودون حدوث ركود اقتصادي.

انكمش الاقتصاد الأميركي عن الربع الأول من هذا العام بـ 1,5% وهبط مؤشر ميشغان لثقة المستهلك بالاقتصاد الأميركي إلى مستوى قياسي عند 53,3 %.

تشير البيانات التاريخية إلى أنه عندما يكون معدل التضخم فوق 4% ومعدل البطالة دون 4% فإن الاقتصاد الأميركي يدخل في الركود في العامين التاليين، كما أن مؤشر الدولار الأميركي فوق 100 نقطة يتسبب بانكماش الناتج المحلي الإجمالي الأميركي وكل هذه الأرقام متحققة الآن، كما أن ارتفاع أسعار الدولار ترفع أسعار السلع المقومة به مثل القمح والنفط الأمر الذي سيضغط سلبا على نمو الاقتصاد العالمي.

3- النمو يساوي الصفر:

على الطرف الآخر من المحيط الأطلسي، تبدو مشكلة اقتصاد اليورو مختلفة تماما، فبخلاف المملكة المتحدة تعود مشكلة الاقتصاد الأوروبي إلى ارتفاع أسعار الطاقة الناتج عن الغزو الروسي لأوكرانيا.

بلغ التضخم في منطقة اقتصاد اليورو 7,4% في مايو 2022 حيث ترتفع أسعار الطاقة بشكل أكبر من نمو دخل المواطنين مما يؤدي إلى تآكل الدخل الحقيقي.

ترى المفوضية الأوروبية أن الاقتصاد سيتجاوز هذه المرحلة الصعبة ويعود إلى النمو في الربع الأخير من العام بنحو نصف نقطة، في حيث يرى كثير من الاقتصاديين أن الأزمة أكبر من ذلك بكثير وأن الاقتصاد لن يحقق أي نمو في هذا العام.

4- سياسة صفر كورونا:

في الصين حيث ثاني أكبر اقتصاد في العالم، البينات الاقتصادية تقلق الاقتصاديين على مستوى مؤشرات التصنيع، حيث يمثل الاقتصاد الصيني 19% من إجمالي الاقتصاد العالمي فعندما يعود كورونا للتفشي من جديد في مثل هذه الظروف فهذا يعني تأثيرا كارثيا على سلاسل التوريد والطلب على السلع من قبل الدول الأخرى أو ما يعرف باسم (أثر روتردام) نسبة لحركة تدفق السلع من ميناء شنغهاي في الصين إلى ميناء روتردام في هولندا.

مع عودة عمليات الإغلاق في محاولة للوصول إلى مستوى صفر إصابات اصطفت السفن خارج الموانئ الصينية وبدأ قطاع التجزئة والتصنيع في الانكماش، حيث تراجعت مبيعات التجزئة بنسبة 11 % على أساس سنوي في أبريل الماضي، وانخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 3%، بالإضافة إلى انخفاض في مبيعات المنازل إلى أدنى مستوى منذ 2020، وارتفعت البطالة على الرغم من تخفيف بنك الصين الشعبي للسياسة النقدية ومنح القروض الميسرة والتوسع الائتماني الاستثماري وكل هذه المعطيات مؤشرات ركود.

5- القمح الأسير:

مع حصار روسيا لموانئ البحر الأسود التي تستخدمها أوكرانيا لتصدير الحبوب، تتزايد المخاوف من حدوث أزمة غذاء عالمية مع ارتفاع أسعار القمح الذي يضغط بشكل رئيسي على أسعار المواد الغذائية، الأمر الذي يهدد بزيادة عدد الأشخاص المهددين بانعدام الأمن الغذائي وحدوث اضطرابات سياسية كما حدث في سيرالانكا مؤخرا، الأمر نفسه دفع الهند إلى منع تصدير القمح، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة الأسعار عالميا والتي ارتفعت بأكثر من 100% خلال الثمانية أشهر الماضية.

الخلاصة:

أربعة عوامل رئيسية تقود الاقتصاد العالمي نحو الركود تتمثل في تباطؤ أكبر اقتصادين في العالم (الولايات المتحدة والصين)، وتوقف النمو في الاقتصاد الأوروبي، بالإضافة إلى الحرب في أوكرانيا، تتمثل موجة الركود القادمة بأنها نتاج عوامل سياسية واقتصادية، يمكن للاقتصاديين التعامل مع العوامل الاقتصادية، ولكن كيف لهم أن يحددوا متى وكيف يمكن أن تنتهي الحرب في أوكرانيا؟