الذاهبون إلى حتفهم

2021.11.03 | 05:45 دمشق

asma-alnatwr.jpg
+A
حجم الخط
-A

لطالما التقطت كاميرا المصورين المشهد وتركت لنا تأويله وتحليله، تجد الصورة سكينة ومستقراً لها في إطار محدد ونسبح نحن في فراغ الاتجاهات محاولين فهم أبعادها ومقولتها.

منذ أيام تركتنا الصورة أمام كمّ كبير من الألم في لقطة الرجل الذي حمل طفله الذي فقد أطرافه، وها هي اليوم تتركنا أمام لقطة اللاجئة السورية التي كانت تودع جارتها، بعد أن قررت حكومة الدنمارك إعادتها إلى بلادها التي باتت ـ تُعتبر آمنة ـ.

لم يكن من في الصورة وحدهم الباكين، لقد كان المشهد مُبكياً بكل تفاصيله، لكننا كالعادة عاجزون أكثر من تلك اليدين اللتين تمتدان من خلف السور، من دون أن تلتقيا.

المشهد يفجر مجدداً الحوار المتكرر حول أزمة اللاجئين، ومدى قدرة تحمل الحكومات والشعوب لوجودهم، في وقت تبرر فيه الحكومات قراراتها باختلاف الظروف التي سمحت بمنحهم حق اللجوء الإنساني، لكن ذلك النقاش المستمر لا يأتي على ذكر الحقيقة في اختلاف سياسات الدول المانحة لحق اللجوء وإعادة حساباتها في لعب الأوراق السياسية، الأمر الذي انعكست مغبّاته على الكائن الأضعف في تلك اللعبة.

تترافق تلك الدعوات للعودة مع عودة السفاح العم إلى البلاد، ومع زيادة الاحتقان بين السوريين في الداخل بسبب الشح الاقتصادي، لتشكل ظرفاً مثالياً لعودة المهجرين واللاجئين والنازحين وفق ما يدعون

يحدث ذلك بالتزامن مع ارتفاع معدل القصف المدفعي والصاروخي على المدنيين في جبل الزاوية والمناطق التي من المفترض أن تكون مناطق خفض تصعيد في الشمال السوري، فتخرج جنازات الأطفال والكهول والشباب بالجملة من دون أن يرف للعالم جفن، وتترافق تلك الدعوات للعودة مع عودة السفاح العم إلى البلاد، ومع زيادة الاحتقان بين السوريين في الداخل بسبب الشح الاقتصادي، لتشكل ظرفاً مثالياً لعودة المهجرين واللاجئين والنازحين وفق ما يدعون.

قد يبدو الأمر مجرد إجراءات حكومية وقرارات تصدرها الحكومات وتصوت عليها البرلمانات، لكن الصورة التي قد يراها أمثالنا تجعلنا نشعر بأننا لا نرقى إلا لنكون بيادق شطرنج ينقلوننا من هنا إلى هناك، بناء على اعتبارات كثيرة ليس من بينها حالة اللاجئ الإنسان النفسية أو استقراره العائلي، أو الحفاظ على نشأة أبنائه واستقرار تعليمهم، أو أي شيء مما قد يخصه.

لماذا يعتقد العالم أن اقتلاع السوريين ورميهم من مكان إلى آخر أمر غاية في السهولة، ولماذا يحاكمونهم على أن النزوح إلى خارج بلادهم الأم كان خياراً من ضمن خيارات كثيرة متاحة أمامهم، أو أن رفاهية التنقل التي كانوا يتمتعون بها أتت بهم إلى البلاد الجديدة بهدف السياحة، بل ويعاملونهم كما لو أنهم منحوهم جائزة بمنحهم حق اللجوء، بينما يعمي العالم بصره عن أنهم خرجوا تحت وابل الرصاص لينجوا بأنفسهم ويحموا أبناءهم، وهم إذ نجحوا بنجاتهم من الموت المحقق هناك لا يستطيعون النجاة من شبح التهجير الجديد اليوم.

تتداول الأروقة السياسية المحلية والعالمية حديثاً وخططاً حول إعادة اللاجئين إلى البلاد التي أصبحت آمنة وفق معاييرهم، في وقت تتحدث فيه المنابر الحكومية عما يدّعون أنه يحقق العدالة الانتقالية، وبين هذا وذاك يبقى اللاجئ السوري مثل ريشة تقذفها الرياح بين هنا وهناك من دون أن يمتلك رفاهية الاختيار مرة أخرى ومن دون أن تصبح حياته ملك يده.

ربما سيقتلعون الأسد من منصبه بعد إتمام مهمته وسيؤمن المجتمع الدولي انتقالاً سلساً للسلطة وفق ما يعتقد، ثم ستؤمن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي عودة المهجرين، وستبدأ تمثيلية الحياة الديمقراطية بعد أن تضع الحرب أوزارها، وستزدهر الحياة الاقتصادية بعد استيطان المؤسسات القادمة لإعادة الإعمار، الكائن الوحيد الذي سيبقى في ظل هذه الأحداث وعلى هامش الخطط من دون أدنى رعاية هو الإنسان الذي تجرع من العذاب صنوفاً حتى طاف الألم من أطرافه. 

ملفات المخفيين قسرياً والمفقودين والمعتقلين لم تُغلق ولم يتلقّ الفاعلون والمجرمون جزاءهم، وذلك سيجعلنا نواجه جيلاً غاضباً وحاقداً، بل وكافراً بقيم العدالة

يبدو كل ذلك محاولة ضئيلة لتجميل الواقع، لأنه إذا كان على العالم أن يفكر أن يعيد سوريا إلى مصاف الدول الآمنة وأن يحقق العدالة الانتقالية، فعليه أن يعيد النظر في فكرة العدالة التي يبديها العالم للشعب السوري، لأن تلك الشعارات لا تكفي لإحلال السلام، ذلك أن تحقيق السلم الأهلي هو من أولويات إعادة إعمار البلاد الخارجة من أتون الحروب، ويبدو أن ذلك ما زال بعيد المنال في السيناريو السوري لأن الشرخ الاجتماعي لم يُردم ولم يبذل أحد جهداً لسدّ الهوة الاجتماعية الحاصلة.

ما يزيد الأمر فداحة أن ملفات المخفيين قسرياً والمفقودين والمعتقلين لم تُغلق ولم يتلقّ الفاعلون والمجرمون جزاءهم، وذلك سيجعلنا نواجه جيلاً غاضباً وحاقداً، بل وكافراً بقيم العدالة، أو غير مرتبط بقيمة عليا، ويدرك بأن العالم قائم على حسابات مختلفة عن القيم. 

ما يمكن أن نؤمن به يقيناً أن أي حديث عن عودة اللاجئين أو العدالة الانتقالية وبناء الدولة من غير الممكن تحققه على أرض الواقع، في ظل هذه الانتهاكات الدولية المستمرة وبوجود شعب يحاول الخروج من تلك البلاد بأي طريقة حتى لو كانت على حساب حياته، وحتى وإن كان يقامر بآخر أوراق حياته، وبوجود أحقاد اجتماعية تفكك وحدة ونسيج المجتمع السوري، وتجعل منه على أعتاب حرب اجتماعية باردة أو تبقيه مفككاً غير قابل للتوحد تحت راية وطن واحد.