الذاكرة

2020.05.21 | 18:41 دمشق

thumb_208562_700_400_0_0_exact.jpg
+A
حجم الخط
-A

لو أمعنا النظر في حياة الأمم من حولنا في الماضي والحاضر، لما صعب علينا أن نقدم تصنيفاً مبدئياً لهذه الأمم ننطلق فيه من جملة الملكات العقلية للإنسان الفرد. فعقل كل منا مكون من سلسلة هائلة من الملكات التي يستحيل فصل واحدة منها عن الأخرى، مثلما يستحيل تصور عمل الواحدة منها مستقلاً عن غيرها. ومع ذلك قد يغلب على فرد أن يميل إلى حشد أكثر ملكاته في خدمة إحداها كالفنان الذي يبدع لوحة جميلة أو قطعة موسيقية رائعة. فهذا المنتج الفني ما كان ليظهر لولا أن تآزرت شتى الملكات في خدمة المخيلة المبدعة على سبيل المثال.  

وما يقال على الفرد يقال على الأمة ، فالأمة المبدعة كالفرد المبدع تستخدم جميع ملكاتها العقلية والنفسية في سبيل إنتاج وجود مبدع متميز من الناحية الثقافية والحضارية والجمالية والأخلاقية . لنقل أن هذا النوع من الأمم المبدعة هو أشبه ما يكون في إبداعه بالشاب الذي ما يزال عقله نضراً محتفظاً بكل قدراته وطاقاته المبدعة.

ولكن الأمم لا يمكن أن تظل على هذا النحو طيلة حياتها. فالأمة التي كانت في لحظة ما مبدعة لا بد أن يأتي عليها حين من الدهر يضعف إبداعها وتتفكك وحدتها وتؤول إلى نوع من الشيخوخة التي يضعف فيها تآزر الملكات، وتصبح في حالة تسيطر عليها ملكة واحدة بدلاً من حالة التآزر الضروري بين شتى الملكات في حالة الإبداع والعبقرية.

ولو أننا اليوم ألقينا نظرة على حياة الشعوب العربية، لاكتشفنا بسهولة أن ملكات الأمة لم تعد تعمل في تآزر وتكامل. بل لقد أصبحت هذه الملكات تعمل متعارضة متناقضة مما يفضي بها إلى نوع من الفوضى التي تفرغ أفعالها من كل مضمون إيجابي .

 ونتيجة لهذه التناقضات الذهنية والصراعات الواقعية، وما ينجم عنهما من فوضى في شتى المجالات والميادين، فإن أمراً واحداً يصبح أكثر ظهوراً ويقفز إلى مقدمة الأحداث جميعها على حساب كل ما عداه من أمور كانت تستحق أن تكون أكثر بروزاً وأشد حضوراً.

 إنه الماضي الذي هو التعبير عن فاعلية الذاكرة وسلطانها على كل من لم يعد قادراً على إنتاج حاضر وإبداع مستقبل. الذاكرة هي ذلك الخزان الذي يلجأ إليه الجميع ليستخرجوا منه كل ما من شأنه أن يعزيهم عن خواء الحاضر وفقر التصورات التي علينا أن نواجه بها المستقبل .

لو أننا اليوم ألقينا نظرة على حياة الشعوب العربية، لاكتشفنا بسهولة أن ملكات الأمة لم تعد تعمل في تآزر وتكامل

الذاكرة إذاً هي الملكة الحية التي مازلنا نعول عليها أكثر من غيرها. والتاريخ بمعناه القديم هو العلم الذي لا انفكاك له عن الذاكرة. وفي ضوء ذلك يتحول سرد الماضي إلى سرد حكائي يخلق في النفوس حمية ملحمية فتعيد إنتاج المشاهد التي سبق وقوعها وتتخيل نفسها وكأنها جزء لا يتجزأ منها. الذاكرة والتاريخ هما ما يسيطر اليوم على حياة العربي ولكن مع غياب كل نظرة نقدية وذلك لأن التاريخ لا ينظر إليه إلا على أنه تذكر.

أما الموقف النقدي فمن شأنه أن يفسد متعة انبعاث الذكريات ومتعة التفرج عليها ومتعة الاندماج فيها.  لذلك يتحقق للذاكرة انتصار باهر على كل الملكات العقلية وخاصة على ملكة المخيلة التي من طبيعتها أن تتوجه نحو المستقبل. فإذا كانت المخيلة تدفعنا إلى تخطي الوقائع في اتجاه عالم أفضل، وهو ما يقتضي العمل والمغامرة والمجازفة، فإن الذاكرة تمكننا من التمتع بالعودة إلى الأزمنة الغابرة على هيئة انعدام للحاضر ورغبة لا حد لها في الفناء، وكأن الأمة راغبة في التوحد في هذا الفناء رغبة الفرد بالعودة إلى الرحم تخففاً من عبء الوجود أو زهداً في كل شيء وهو ما حدث في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي عندما ساد (التصوف العملي، تصوف الطرق) بدلاً من (التصوف النظري الفلسفي) الذي كان (ابن عربي) قمة وخاتمة له.

 ولقد اقترنت لحظة الزهد هذه -أي لحظة توقف العقل عن الإبداع- بتنازل العقل عن حقه في (التأويل)، وبتنازل الإرادة عن حقها في (تغيير العالم). وأما التعين العلمي والمعرفي للحظة " الجمود الحضاري" هذه، فقد عبرت عن نفسها من خلال ما انتهى إليه العلماء من سقوط في "مستنقع  التكرار"، الذي بموجبه شرحوا ما سبق للأقدمين إنتاجه من العلوم التقليدية والشرعية وعلقوا عليها، ثم شرحوا الشروح ولخصوها - تسهيلاً للحفظ وليس إعمالاً للفهم - عبر ما يشبه الحلقة المفرغة، التي إن شهدت على شيء، فإنها لا تشهد إلا على توقف" الإبداع" من جهة، وعلى خواء الروح من جهة أخرى، فنجم عن ذلك كله أن ساد " التقليد والاتباع" والإيمان بكل خرافة ومعجزة منسوبة إلى الأولياء. وهكذا فشت العقائد الفاسدة في الجمهور، وعلى رأسها " عقيدة الجبر"، وما اقترن بها من تبلد للعقل وشلل للإرادة.

تلكم هي الصفحة الأخيرة في " الثقافة العربية"، والتي ما يزال تأثيرها فعالاً في وجدان شعوبنا. وهي صفحة انغلاق وتعصب وخوف من الآخر ومن إبداعاته الحضارية والثقافية، وبخاصة الخوف من أنماط العيش المستحدثة والأفكار المبتكرة، والتي  من بينها ما يسوّي بين الرجل والمرأة، بل  يبيح  للمرأة أن تكون " سيدة أولى" في البلاد، أي رئيسة، من غير أن تكون زوجة فلان أو علان من الطغاة والمستبدين بالبلاد والعباد. هؤلاء الذين يسعون إلى إبقاء كل شيء على ماهو عليه تارة باسم الدين وأخرى بادعاء الحرص على المصلحة الوطنية، وثالثة  الدفاع المزعوم  عن " الأصالة والهوية" في وجه الغزو الثقافي للأمم "المتحضرة.

كل ذلك يحدث وكأن العرب والمسلمين لم ينفتحوا يوماً على الثقافة اليونانية وترجمة السريان لها إلى اللغة العربية، وما عاد عليهم من نفع في حقول كثيرة، وبخاصة المعرفة بطرائق تفكير جديدة، وهو ما أخصب " الثقافة العربية"، وهيأ أهم الأسس لولادة العلوم الإسلامية وأهمها "علم أصول الفقه" وسائر العلوم الاستدلالية المرتبطة به ، والمتفرعة عنه . وحسب المرء مراجعة كتب "حجة الإسلام الغزالي" ليلمس بنفسه الأثر الحميد لما للمنطق اليوناني من أثر في مصنفاته التي نكتفي هنا بالإشارة السريعة إليها.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل لقد تم استدعاء أول صفحة من صفحات "السيف" في التاريخ الإسلامي المتمثلة في صراع "الصحابة" على السلطة، واحتكامهم إلى" السيف" في ذلك. وقد بلغت نزعة " العنف" هذه ذروتها في المذهب الكلامي لفرقة "الخوارج" التي كفرت الجميع واحتكمت إلى السيف. في أعظم الأمور وأهونها. ولم يكن هذا " التفكير الخارجي" المتطرف إلا تعبيراً عن طريقة التفكير البدوية التي لم يستطع الإسلام اجتثاثها من قلوب العرب وعقولهم.

ولم تزل هذه النزعة المتطرفة، منذ ثلاثينيات القرن العشرين، يتزايد تطرفها عبر انتقالها من "أصولية" إلى أخرى حتى بلغت ذروتها في تنظيم القاعدة، وفي تنظيم " الدولة الإسلامية"، وفي كل صور (الإسلام السياسي) التي تتناسل من هاتين المنظمتين الإرهابيتين.

واليوم يتخذ الحاكم  السوري المستبد من ذلك كله - بعد أن شارك في بناء هذا الإرهاب وتأسيسه - مبرراً للاستمرار في قتل  السوريين والعمل على تأبيد حكمه.

هذا هو كل ما بقي لنا في ذاكرتنا البعيدة والقريبة وبالتالي أليس من الأجدر بنا أن نتجاوز هذا (المتبقي)، وأن ننخرط من ثم في صنع عالم جديد يخصنا نحن ولا يخص موتانا الذين عاشوا عصورهم ومن حقنا بالتالي أن نعيش عصرنا وأن نتخذ من أنماط العيش الجديدة وطرائق التفكير الراهنة أداة إلى الانعتاق وتحرر الفرد والجماعة في آن معاً.

ولكن هل من سبيل إلى تحقيق ذلك ما لم نطلق الحريات الفردية والاجتماعية على أشدها، وما لم نُعد (للمخيلة الحرة) ما تستحقه من كرامة واحترام؟