" الدين الإبراهيمي".. "الهندسة الثقافية" للهيمنة على الأنظمة والشعوب العربية

2021.12.19 | 07:03 دمشق

dyanat-780x405-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن "اتفاق أبرام" أو إبراهيم سوى إعلان عن نهاية النظام العربي الحالي بحيث يظهر انكشاف الأنظمة العربية تماما أمام إسرائيل، ليمنحها الاتفاق الحق في التغلغل في شتى أنحاء البلدان والمجتمعات والدول العربية وعلى مختلف المستويات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والإعلامية والتعلمية والثقافية والصحية...إلخ وهو ما تحقق بداية في السيطرة الإسرائيلية شبه الكاملة على الإمارات.

لكن ما لم يخطر على بالنا هو أن تصل الأصابع الإسرائيلية إلى الدين فها هي الإمارات تعلن -للمسلمين خصوصا- عن منتوجها الجديد "الديانة الإبراهيمية"، فلا أحد معني بهذه الدعوة سواهم، فلا يوجد يهودي مؤمن أو علماني مستعد أن "يقشّر بصلة" بهذه الديانة الجديدة ولا يوجد مسيحي مؤمن أو علماني يلتفت لمثل هكذا ترهات.. فمن بقي سوى المغفلين من العرب والمسلمين ضحايا الحروب واللجوء الذين جرى غسيل متقن لأدمغتهم منذ سنوات ويستمر حتى اللحظة.

وابتداء من الثورات الشعبية المتفجرة التي حولتها إدارات محلية وإقليمية ودولية إلى ما يشبه حروباً أهلية مُقنّعة، سرعان ما اتخذت طابعا طائفيا معلنا، ودفعت بعشرات الآلاف من الشباب الذي ذاق الويلات إلى الإلحاد، حتى صار الحديث عن الإلحاد موضة شملت بلاد الخليج العربي المستقرة والتي بقيت في منأى عن الثورات ومعاركها..

الهندسة الثقافية في سبيل التغيير الاجتماعي السياسي:

إذا أردت تغيير سياسة دولة ما، فما عليك أولا سوى أن تضرب بنيتها الاجتماعية التي تقوم وترتكز عليها فلا يمكن تغيير نهج دولة دون تغيير مزاج المجتمع أو الشعب ولا يتغير المزاج الاجتماعي العام دون الهجوم على المرتكزات الثقافية الروحية للشعب وزعزعة الاستقرار العقائدي والتشكيك في المقدسات الدينية أو الثقافية والاجتماعية.. وهو ما يجري منذ سنوات عبر شبكات التواصل لاسيما اليوتيوب وبعض المواقع الإلكترونية واسعة الانتشار.. ويمكن ملاحظة ذلك في مئات القنوات التلفزيونية الرسمية والخاصة وقنوات اليوتيوب التي تبث مختلف صنوف التفاهة إضافة لقنوات يوتيوب متخصصة في الإلحاد ونقد القرآن والرسول محمد (ص)... الخ

والحال فإن عقودا من الضغط غير المبرر على المجتمع الخليجي باسم الالتزام الديني من الممكن أن يكون هو السبب الفعلي لهذا الانفلات الذي بتنا نلحظه في السنوات القليلة الأخيرة ..

ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي لاسيما اليوتيوب في طرح مسائل دينية وعقائدية وتاريخية كانت تعتبر قبل عشر سنوات فحسب من المحرمات مثل تاريخية القرآن ومصادره النصّية... بل حتى إن قناة يوتيوب مغربية راحت تشكك في وجود الرسول محمد عليه السلام، وفعلت قنوات أخرى الأمر نفسه حيال إبراهيم الخليل عليه السلام، ولا يظن القارئ أن غاية ذلك هو البحث الحر وإعمال العقل في التاريخ، لأن ذلك له خطاب ووسائل مختلفة جذريا ..

فلا يبدأ التجديد وإعمال العقل بقرار سياسي لاسيما إذا كان القرار مستلبا وتابعا لدول معادية للشعوب العربية، لذلك فمن المتوقع لهذه العملية المصطنعة أن تؤدي إلى عكس المراد منها، لو افترضنا أن المراد منها التجديد أو إعمال العقل !!

فلا بد إذا لتحطيم الشعوب العربية إخراجها من ثقافتها استعدادا لاستقبال منتج ثقافي صهيوني جديد هو الأخطر، لأنه يسري في النفس سريان الدم في الجسد أقصد الأفكار المضللة والتصورات الواهمة والخيالية لسلام عربي إسرائيلي تاريخي مبني على "مشتركات ورموز ثقافية تاريخية واحدة " كما يزعمون.. وقد فات هؤلاء أن الفهم الخاص لهذه الرموز والأفكار المشتركة مختلف ومتناقض أحيانا داخل كل دين، وهو ما يجعل لكل دين خصوصيته وفرادته..

لكن التوقيت الذي أعلن فيه عن هذه الديانة أو المشروع السياسي ذي الوجه الثقافي الديني يشير إلى أن استهدافه قد يكون أبعد من المنطقة العربية وشاملا غير المسلمين لاسيما وأن الإعلان عن المشروع من دبي جاء بعد شهر واحد من فضيحة تاريخية هزت كيان الكنيسة الكاثوليكية وعرش البابا الكاثوليكي (قضية اغتصاب وتحرش طالت آلاف الأطفال) لابد أن نلمس نتائجها في القريب العاجل في انفضاض مزيد من المؤمنين عن الكنيسة الكاثوليكية وربما في تركهم للمسيحية كُلية، وهو أمر ملاحظ بقوة في دول مثل ألمانيا وأميركا يقال إن هناك مليون مؤمن تخلوا عن الكنيسة فيهما خلال السنتين الأخيرتين.

هذا وقت مناسب إذاً لإطلاق ديانة جديدة تتويجا لمسار الاحتلال السياسي الإسرائيلي للأنظمة العربية وسيكون كلا المسارين السياسي والثقافي إذا ما تحققا، صفقة القرن بالفعل، التي تضمن بها إسرائيل السيادة المطلقة على الأنظمة العربية واستطالتها وعلى الشعوب الخاضعة لهذه الأنظمة..

فليست الديانة الإبراهيمية أو "الديانة الإبرامية" سوى ديانة رجال سلطة المليارديرات المتصهينين، ينتحلون اسم إبراهيم الخليل عليه السلام لإعلان مع "اتفاقية أبرام" (هو الاسم الأصدق للاتفاقية لأنه يشير إلى اللفظ العبري) عن ولادة الدولة الإسرائيلية الثانية من المحيط إلى الخليج، في وقت مازال فيه شيخ مسلم هنا أو هناك يحدثنا عن زوال إسرائيل اعتمادا على الأرقام (أبرزهم الشيخ بسام جرار) وهي طريقة باطنية يهودية تسمى القابالا أو الكابالاه، وفي وقت تشير فيه كل الوقائع إلى توسع إسرائيل العمراني الاستيطاني وازديادها قوة عسكرية ومعلوماتية وتصاعد تدخلاتها في كل الدول العربية دون استثناء وبشتى الطرق، عبر الوكيل الإماراتي، رغم أن إسرائيل مثلا مازالت تعاني من أزمة الهوية ومسألة الهجرة المعاكسة.

الروح الإسرائيلية الإماراتية:

أمست إسرائيل صلة وصل بين القوى الإمبريالية والأنظمة العربية بل أصبحت هي والأنظمة العربية شيئا واحدا، فالروح الإسرائيلية راحت تسري في دم النظام العربي يتوجه ويتحرك بها، ودليل ذلك أن نظام الإمارات الذي ليس سوى قفاز إسرائيلي، فاعل في كل دولة عربية تقريبا وفي مستويات متعددة اقتصادية سياسية إعلامية ثقافية تعليمية، ومن ناحية ثانية فهذا النظام يدعم حروبا وانقلابات أو حركات ومنظمات معادية للشعوب العربية والإسلامية من كل لون وتوجه..

ختاماً نذكّر المبهورين والمضللين بالدعوة الإبراهيمية بزيادة الاستيطان في الجولان وبالإعلان الإسرائيلي الوقح صراحة أن مشروع الدولتين لم يعد ممكنا ..

كما نذكر المطبلين للإمارات ودينها الجديد بجماعة "ناطوري كرتا" اليهودية الأرثوذكسية التي تؤمن بأن وجود إسرائيل هو معصية لله، وهم يدعون لتأسيس دولة فلسطين، كما نورد ما قاله النائب الإسرائيلي عوفر كساف في الكنيست الإسرائيلي قبل أسابيع: "إن الشعب الفلسطيني موجود. وإسرائيل دولة احتلال حتى لو كانت قرابة تاريخية تجمع بين الطرفين"، في إشارة ربما إلى نظرية جماعة الدين الإبراهيمي التي تستخدم التاريخ الإبراهيمي للترويج لإسرائيل وتثبت وجودها كحقيقة نهائية تستمد شرعيتها من هذا التاريخ، في وقت تدعو من طرف خفي لمسح فلسطين من الوجود ومن التاريخ معا، كمقدمة لمسح دول عربية أخرى أو على الأقل مقدمة لتدميرها وتقسيمها..