الديموقراطيات المذعورة

2023.10.17 | 06:55 دمشق

الديموقراطيات المذعورة
+A
حجم الخط
-A

كغيره من المشاهد الكثيرة المتكررة، نقف مجدداً أمام المشهد الدموي في غزة، مصحوبا بفورة التضامن المتوحش، الذي تمارسه الديمقراطيات الغربية في الدفاع الشرس عن السردية الإسرائيلية، متغافلة عمداً، عن المحرقة الفلسطينية في غزة، والتي لم يبق بيت من بيوت العالم لم يشهد مدى وحشيتها، في قتل الفلسطينيين وتدمير مدنهم وتخريب البنية التحتية عمدا، وضرب المشافي التي تحاول ما استطاعت أن تنقذ أرواح الضحايا، وقطع شرايين الحياة من ماء ودواء وكهرباء، إمعاناً في الحصار، وتهيئة للمجزرة الكبرى التي يحضرون لها، أمام بصر العالم وسمعه بل وتحريضه، كل هذا مشفوعا بسيول التصريحات التي تبرر لها ما ستفعله، وتؤكد ولاءها الأعمى لدولة الاحتلال، واستعدادها الفوري لإرسال الإمدادات العسكرية لتعزيز قدرات جيش الاحتلال على القتل، بالوقت ذاته نشهد كيف تحرك دولة عظمى حاملات طائراتها نحو السواحل الفلسطينية، في استعراض تافه لغطرسة القوة، هل هو خوفهم الحقيقي على ربيبتهم إسرائيل.

مرت عقود طويلة ونحن نكرر من دون أدنى تفكير، أن أميركا تحرص على دولة إسرائيل حرصها على حماية مصالحها في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، مع أننا لو راجعنا خمسين سنة مضت، وقمنا بجردة حساب سنجد أن أميركا تدفع المليارات سنويا لتعزيز وحماية دولة إسرائيل، دون أدنى إفادة لصالح هذه الدولة العظمى، هل هي تلبية لرغبة الغرب العميقة بإبقاء اليهود بعيدا عنها، أم هي شراكة تمليها الرؤية الدينية للمسيحية الإنجيلية في الولايات المتحدة الأميركية، أم هو الضغط الفعال للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية، أم هو شكل من أشكال صراع الحضارات، أم هي تجسيد لحرب راعي البقر على الحضارات العريقة التي يحفل بها المشرق العربي، وهذا ما تبدى جليا في الحرب الهمجية على العراق، لا يبدو أن أي تعليل مما سبق يكفي منفردا لتفسير المشهد السريالي، كيف يقبل دافع الضرائب الأميركي أن تذهب هذه المليارات إلى إسرائيل، مع العلم أن جميع الخدمات والمصالح التي قدمتها دولة إسرائيل للولايات المتحدة الأميركية، خلال خمسين سنة مضت، إن افترضنا جدلا أنها حصلت "والأرجح أنها لم تحصل أبداً" تستطيع الولايات المتحدة الأميركية أن تتحصل عليها وبالمجان من كثير من الدول العربية التي تمثل أنظمة وظيفية لن تتوانى عن تلبية أدنى رغبة للأخ الأكبر. المكسب الأهم الذي تجنيه الولايات المتحدة من دعمها الأعمى للكيان الصهيوني، هو تعميق كره هذه الشعوب حيالها، وترسيخ صورة الشرطي الفاسد، للدور الذي تلعبه في دعم دولة الإرهاب" إسرائيل" فعن أي استثمار رابح يحدثنا جو بايدن.

حجم التبادل التجاري السعودي الأميركي في عام 2022 تجاوز 65 مليار دولار، بينما لم يبلغ حجم التبادل الإسرائيلي الأميركي الخمسين مليار دولار في العام نفسه

يتحدث الساسة الأميركيون عن المصالح الاقتصادية مع الكيان الصهيوني، ولو أرنا أن نجري مقارنة، بين صادرات إسرائيل للولايات المتحدة، وبين صادرات بلد ليس له هذا الضجيج الإعلامي مثل إيرلندا، سنجد أن إسرائيل تصدر من المنتجات الإلكترونية ما قيمته خمسة مليارات دولار سنوياً بينما تبلغ صادرات إيرلندا من المنتجات الإلكترونية إلى الولايات المتحدة سنويا ما قيمته عشرون مليار دولار، ولو علمنا أن حجم التبادل التجاري السعودي الأميركي في عام 2022 تجاوز 65 مليار دولار، بينما لم يبلغ حجم التبادل الإسرائيلي الأميركي الخمسين مليار دولار في العام نفسه.

أما عن دور إسرائيل في محاربة الإرهاب، فهذه عبارة سمجة لم يعد من الضروري الوقوف عندها، فالعالم اليوم بقضه وقضيضه، وبفعل معاينته اليومية لتجاوزات وانتهاكات إسرائيل الفاقعة لكل العهود والمواثيق الدولية، والأعراف الإنسانية وحقوق الإنسان، والقرارات الأممية، بات يعرف أن الكيان الصهيوني، تخلق في البدء عبر ممارسة الإرهاب الدموي، وهو اليوم من أعرق وأكبر مخلقي وممارسي ومصدري الإرهاب في العالم.

ما تفسير هذا التسابق المحموم لنيل رضا الكيان الصهيوني؟ وتأييده بشكل غير مسبوق، هذا الذي نشهده اليوم، لا يصدر إلا عن حالة رعب عميق متلبس بمعظم القادة الغربيين، من أن يفسر أي تصريح أو صمت له، على أنه سلوك معادٍ للكيان الصهيوني، وبالتالي يفقد حلمه في البقاء في منصبه. لم تطلب إسرائيل من دول غربية تجريم من يعلن وقوفه مع أطفال وضحايا غزة، لكنهم فعلوا ذلك بتلقائية خاطفة، مدركين أن هذا الكيان الذي يتشارك مع حافظ الأسد ووريثه عقيدة الولاء المطلق "من لم يكن معنا فهو علينا" ولو تذكرنا خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتانياهو" في الكونغرس الأميركي قبل ثماني سنوات في عهد الرئيس أوباما، وكيف أن أعضاء الكونغرس كانوا يقفون ويصفقون بشكل هستريائي عقب كل جملة يتفوه بها، وبشكل لم نكن نشهده إلا في القاعة التي يخطب فيها رئيس كوريا الشمالية مخاطبا جموع الرعايا المسكونين بالخوف، لعرفنا مقدار الخوف الذي يحمله معظم السياسيين الأميركيين والغربيين، من احتمال خسارتهم للدعم الصهيوني، أليس هذا إرهابا تجاوز حدود المعقول.

هذا المشهد السريالي المرعب، يشي بعصر يتوحد فيه الإرهاب الدولي بالتفاهة والجنون، عصر يختنق فيه الأمل بالعدالة والحرية، عصر تسقط فيه جميع الخدع والأكاذيب

كل هذا مجتمعا يترك الباب مفتوحا على مصراعيه، للعديد من التفسيرات التي لم تنجح حتى الآن في تفسير هذا الدعم المنقطع النظير للكيان الصهيوني، هذا المشهد السريالي المرعب، يشي بعصر يتوحد فيه الإرهاب الدولي بالتفاهة والجنون، عصر يختنق فيه الأمل بالعدالة والحرية، عصر تسقط فيه جميع الخدع والأكاذيب التي ابتلينا بها، عبر أزمنة طويلة، عصر يجعل الأفق شديد العتمة، وفق موازين القوى المتحكمة في هذا الكوكب، والتي يستحيل بقاؤها على ما هي عليه، فنهاية التاريخ لم تأت بعد.