الديمقراطية.. نظام إدارة الصراعات

2022.06.25 | 06:39 دمشق

aldwlt-kshrt-msbq-lldymqratyt-fy-alwtn-alrby.jpg
+A
حجم الخط
-A

الديمقراطية هي نظام سياسي يقوم في جوهره على إدارة الخلافات، التي تعبّر عن تصارع قوى اجتماعية حية ذات مصالح ورؤى ومنابت مختلفة، وليست نظامًا للمتشابهين، أو لمن "يشبهوننا". وإذا أخذنا مفهوم السياسة، كفنّ وعلم لإدارة مؤسسات الدولة وعلاقتها بالمجتمع، يتبيّن لنا، من خلال تجارب تاريخية عديدة، أن الديمقراطية هي من أفضل الوسائل في عملية تنظيم وإدارة العلاقات بين الدولة والمجتمع من جهة، وبين الجهات الفاعلة والتنظيمات السياسية، أو بين التنظيمات السياسية نفسها؛ فهي لا تلغي الصراعات أيًّا كانت منابعها، وإنما ترتب العلاقات بحيث لا تصل إلى حالة الانفجار. ولعل السؤال الأول في هذا السياق هو كيف نمنع الصراعات من أن تكون مدمرة؟ بمعنى ألا تلغي تلك الصراعات الفروق الثقافية والعرقية والاجتماعية، وألا تجبر أي طرف على استبعاد وإقصاء أي طرف أو شخص يختلف بأفكاره ورؤاه عنا؟

وللإجابة عن السؤال، لا بد من الاتفاق أولاً على أن الخلاف هو سمة من سمات الحياة الاجتماعية البشرية، وأنه محرك للتنافس والتقدم في الحياة السياسية والاجتماعية. وهذا يعني أن الديمقراطية يجب أن تجد طريقة للتعامل مع اختلافاتنا. وثانياً، علينا معرفة الصراعات التي تتطلبها الديمقراطية، ومعرفة كيف يمكن للصراع أن يهدد الممارسات الديمقراطية؟ فهناك صراعات واقعية وأخرى غير واقعية، أو تخيلية/ افتراضية، والصراع الواقعي هو صراع حول مشكلة حقيقية تطرحها الحياة، مثل الصراع على الحقوق بين الحاكمين والمحكومين، عندما يرفض الحكام تقديم ما يطالب به المحكومون، بمعنى هناك شيء حقيقي في قلب هذا الصراع لا يمكن القفز من فوقه، ولا بد من التوصل إلى صيغة حل له، وهذا الحل يعتمد بالنهاية على قوة الأطراف وتوازن مصالحها وإرادتها في عدم الوصول إلى حالة الانفجار.

أما الصراع غير الواقعي، أو الافتراضي، فهو على عكس الصراع الواقعي، صراع مُختلق ومفتعل، جوهره الإرضاء من جهة والمناكدة من جهة أخرى، وله وظيفة نفسية اجتماعية، وظيفة تعزية نفسية ووظيفة تبريرية لحالة عجز يعانيها أحد الأطراف، ومن ناحية أخرى غايته التمتع بإزعاج الخصم، من خلال تصيد أخطائه والتشهير به. إنه صراع من دون مضمون متنازع عليه، ينحصر محتواه برغبة نفسية تبريرية، حيث إنه يثير ويحرض على نزعات التعصّب أكثر من إرادة التقارب والتفاهم، وبالتالي فهو يمهّد الطريق لاستبعاد الآخر من المشاركة، وبالنهاية فهو يمهّد لصراع هوياتي بين الجماعات، وهو ما نشهده كثيراً في سوريا هذه الأيام، حيث تأخذ الصراعات صيغة نفي الآخر واستبعاده، وكثيراً ما نجد ذلك في خطابات بعض المثقفين الطليعيين التي تتهم الآخرين باتهامات رخيصة، تمهيداً للخلاص منهم. في هذا النوع من الصراع، لا توجد مطالب، فالغاية هي تجريم الآخر والنيل منه.

حصول النساء على حق المشاركة السياسية هو نتيجة عملية كفاح طويلة، كان آخرها في سبعينيات القرن الماضي، وينطبق الأمر نفسه على مشاركة الأقليات

والأمر المهم الذي يجب أن نعرفه عن الديمقراطية أنها عملية تاريخية، بمعنى أنها ليست منجزاً جاهزاً تكوّن وانتهى. فهي نتاج تاريخي لصراعات طويلة، إذ اقتصرت بداياتها أولاً على مشاركة “النبلاء"، وبعد عمليات نضال وصراعات، توسعت دائرة المشاركين في الحياة السياسية واختيار الحاكم، كما أن حصول النساء على حق المشاركة السياسية هو نتيجة عملية كفاح طويلة، كان آخرها في سبعينيات القرن الماضي، وينطبق الأمر نفسه على مشاركة الأقليات. وعلى الرغم من أن الديمقراطية أصبحت بعد كل تلك التجارب نموذجاً عالمياً في إدارة شؤون الحكم، فإنها لا تلغي الخصوصية لكل شعب ما دامت تحافظ على جوهرها: حق البشر في المشاركة والتعبير عن الرأي والدفاع عنه، وانتقاد المختلف من دون التعرض لأي انتهاكات لكرامة البشر.

ما يجب علينا نحن السوريين التخلّص من فكرة أن الديمقراطية ليست ممكنة إلا بين الفاعلين والأشخاص الذين هم مثلنا تمامًا، حيث تتحول عندئذ إلى شكل من الرابطة الأيديولوجية العمياء. وعلينا أيضًا الإقرار بمبدأي الديمقراطية الناظمين، وهما: الوصول إلى السلطة من خلال صناديق الانتخاب، وكذلك التخلي عنها من خلال الصناديق نفسها. إضافة إلى الاعتراف بأن الديمقراطية لا يمكن أن تكون عصا سحرية تحلّ بحركة صغيرة كلّ المشكلات التي يطرحها الواقع في المجتمع، حيث إنها قد تأتي أحياناً بنتائج كارثية (فوز قوى متطرفة في الانتخابات)، أو قد توصل أناساً معادين لحقوق الإنسان والأقليات، وهذا ما يجب الانتباه إليه ومعالجته من خلال الوسائل الديمقراطية التي تكفل حق البشر في الدفاع عن حقوقها بمختلف الأشكال السلمية.

تلجأ الأنظمة الاستبدادية عامة إلى القضاء على الصراع في المجتمع وتحويله إلى مجتمع متجانس من الخاضعين، من خلال: القمع المباشر (حظر الأحزاب، ومنع الصحافة الحرة، والاعتقالات والتعذيب والطرد والقضاء على أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم مصدر الصراع، وصولاً إلى الإبادة)، والقمع غير المباشر (محاولة السيطرة على سلوكيات الناس وعقولهم). في سوريا، وباختصار، ألغى النظام الأسدي متعمداً كل وسائل التوافق والتوصل إلى حل مع السوريين، فلم يبق أمامهم سوى النزول إلى الشارع بصورة انفجارية، وممارسة كافة أشكال الكفاح من أجل نيل حقوقهم. لقد حوّل نظام الأسد الصراع في سوريا، من صراع على حقوق أساسية اختصرتها صرخات السوريين بالكرامة والحرية، إلى صراع وجودي، وصوّره لأتباعه: إما أنا/ نحن أو نحرق البلد.

لا يقتصر أعداء الديمقراطية على النظام الأسدي، وإنما هناك أعداء آخرون، وجميعهم أصحاب الأيديولوجيات المطلقة أياً كانت مرجعيتها، مثل (داعش) وحزب الاتحاد الديمقراطي، وهيئة تحرير الشام، فجميع تلك الحركات -رغم التباينات البسيطة بينها- تعدّ نفسها مالكة للحق والحقيقة، وبالتالي لا يجوز منافستها بأي شكل، وإلا فالاعتقال والإخفاء والقتل أمامها، نموذجها في ذلك النظام الأسدي، حيث الحرية لك في أن تمجّد السيد فقط.

إن ما حلّ في سوريا، من قتل وتهجير وتدمير من نظام الأسد تجاه أكثرية السوريين، يدفعنا نحو معرفة إدارة الخلافات والصراعات بغية الاتفاق الوطني

لا شك أن الديمقراطية -مثل الدولة- كنموذج للحكم، كانت مستبعدة من عقل التيارات السياسية التي سادت في المنطقة، ومنها سوريا، والتحول تجاه تبنيها كنموذج حدث مؤخراً، منذ قرابة عشرين عاماً، وهي فترة قصيرة بتاريخ التجارب البشرية، وهذا يوضح ما يظهره البعض من مواقف ضد العملية الديمقراطية طالما لم توصله للحكم، وأوصلت فريقا يختلف عنه أيديولوجياً، وهذا يناقض جوهر العملية الديمقراطية، وهو قبول المختلف. إن ما حلّ في سوريا، من قتل وتهجير وتدمير من نظام الأسد تجاه أكثرية السوريين، يدفعنا نحو معرفة إدارة الخلافات والصراعات بغية الاتفاق الوطني، الذي من دونه سنبقى خاضعين للنظام الأسدي إلى أجل غير معروف. هذه الإدارة التي تقرّ بأن المشاركة في الصراع حول الأشياء التي تهم حياتنا المشتركة تمنحنا استثماراً في بعضنا بعضاً، وتوفر لنا مشروع عيش حياتنا معاً، بدلاً من أن نعيشها بالقرب من بعضنا بعضاً، أو بحالة تقاتل، وبتعبير آخر بالنسبة لنا كسوريين: العيش ضمن نسيج وطني، لا كقطع متجاورة، كما يسميها البعض "فسيفساء".