الديمقراطية المباشرة

2018.12.18 | 00:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ينظر السوريون شذراً إلى مفردة "الاستفتاء" التي ترافق صعودها إلى المشهد السياسي مع سيطرة الحكم الشمولي على البلاد. وارتبط استعمال هذه المفردة مع المهازل الانتخابية التي فُرضت على الشعب للاستفتاء على تجديد الرئاسة أو البيعة أو الأبد وما بعد الأبد. وآخر استفتاء عرفه السوريون جرى في 26 شباط سنة 2012 على الدستور الجديد حيث وافق عليه قرابة الـ 90 في المئة (...).

"استفتاء مبادرة المواطنين" يُعتبر حالياً في فرنسا مطلباً محورياً لأصحاب السترات الصفراء الذين خرجوا بداية ضد رفع سعر المحروقات ليطوروا في المسار سلسلة مطلبية واسعة، من أهمها توسيع المشاركة الشعبية في العملية الديمقراطية عبر الاستفتاء. وهذا الاستفتاء يُعطي الحق، بشروط، لأي مواطن بكتابة أو إلغاء قانون، ويمكن له أيضا أن يطرد أشخاص منتخبين. وهذه الفكرة ليست بجديدة في المشهد الفرنسي ولقد ظهر الحديث عنها في التعديل الدستوري سنة 2008 ولكن من خلال مسار وآليات معقدة. وتضعها أيضاً أحزاب التطرف من يمين ومن يسار في مقدمة برامجها الانتخابية، وقد انضمت إليهم مؤخراً بعض الأحزاب التقليدية تيّمناً بالتجربة السويسرية.

"استفتاء مبادرة المواطنين" يُعطي الحق، بشروط، لأي مواطن بكتابة أو إلغاء قانون، ويمكن له أيضا أن يطرد أشخاص منتخبين

ويعتبر السويسريون بأن الاستفتاءات الشعبية تسمح لكل الأقليات بأن تعبر عن نفسها. وفي سويسرا، يصوت المواطنون بشكل كثيف يصل إلى 4 مرات في السنة حول مواضيع متنوعة، منها على سبيل المثال: تقرير المصير، توظيف تحري خاص لملاحقة المتهربين من الضرائب والمزورين في الضمان الاجتماعي، أو حتى التصويت لصالح قرار يعطي المساعدة المالية لمربي البقرات ذات القرون. ويكفي ان يحصل اقتراح على 100 الف توقيع خلال فترة 18 شهر ليصبح مؤهلاً للطرح على الاستفتاء. وهذا ما يسمى بالمبادرة الشعبية. أما المبادرة التشريعية للاستفتاء فتطرحها الدولة وتخص أموراً كبرى كالانضمام للاتحاد الأوروبي. ومع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية، تلجأ الأحزاب لإطلاق مبادرات استفتاء من هذا النوع للتركيز على النقاط الأساسية في برامجها فيكون هناك إذا ما يمكن تسميته بالاستفتاء الخادع الذي يهدف إلى تعزيز موقع سياسي ولا يأخذ بعين الاعتبار إعطاء المواطنين حق الاختيار أو المنع.

في فرنسا، أورد دستور الجمهورية الخامسة سنة 1958 فقرة تنص على إجراء استفتاء على "كل مشروع قانون يُحيل إلى تنظيم السلطات العامة ويتضمن الإقرار باتفاق المجتمع، أو يتيح القبول بالتصديق على اتفاقية". بالمقابل، نص الدستور على أن تترك المبادرة لطرح المواضيع على الاستفتاء للحكومة القائمة أو لاقتراح مشترك بين مجلسي النواب والشيوخ، وليس للمواطنين. وقد تمت توسعة مجالات الاستفتاء في تعديل دستوري سنة 1995 ليشمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. أما الاستفتاء الدستوري، فهو يسمح بالموافقة أو رفض أو مراجعة للدستور، ويمكن اللجوء إلى استفتاء عام أو حصر الأمر باستفتاء أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب مجتمعين، كما جرى عندما طرح شارل ديغول استفتاءً دستورياً سنة 1969 وخسره. وقد شهد المشهد الدستوري الفرنسي عدة تعديلات وسّعت من إمكانيات اللجوء إلى الاستفتاءات مع فرض قيود برلمانية معينة. وقد سمح تطور اللامركزية في الجمهورية للمجالس المحلية بطرح بعض الأمور المحصورة جغرافيا على الاستفتاء الشعبي كتغيير أسماء الشوارع أو وضع كاميرات مراقبة في الأمكنة العامة، ونتائجه تكون ملزمة إذا وصل عدد المصوتين إلى حد معين، وإلا فيبقى في إطار التشاور المجتمعي. 

على الرغم من أن مطالب المحتجين الفرنسيين حالياً متشعبة وغير واضحة، إلا أن ما يتعلق بمبادرة استفتاء المواطنين قد حظي بتطوير لافت وتبين بأن هناك من نقّحه لهم حتى يبدو أنه غير متجانس مع مطالبهم الأخرى. وقد ورد في التفاصيل، بأن هذا الاستفتاء يجب أن يسمح للمواطنين بإنهاء العمل في قوانين يرون أنها غير عادلة، كما يتيح لهم فرض مغادرة بعض كبار السياسيين ولو كانوا منتخبين، وفي هذا معارضة لمفهوم الديمقراطية التمثيلية المعتمد في فرنسا.

أهم السلبيات التي يمكن الإشارة إليها والمترتبة على استفتاء المواطنين هو أنه يفرض مشاكل في الحوكمة حيث يُصبح كل قرار حكومي قابل للطعن أو الرفض

أهم السلبيات التي يمكن الإشارة إليها والمترتبة على استفتاء المواطنين هو أنه يفرض مشاكل في الحوكمة حيث يُصبح كل قرار حكومي قابل للطعن أو الرفض، ويُتيح للاحتجاجات والاعتراضات الاستمرارية مما يشلّ من القدرة على إدارة الأمور العامة. إضافة، فإن هذا الأسلوب يُمكن أن يُتيح الفرصة لمجموعات متطرفة منظمة بشكل جيد في أن تفرض الاستفتاء لصالح قوانين معادية للحريات ولكن يمكن لها أن تحظى بشعبية كما جرى في سويسرا عند طرح اليمين المتطرف الاستفتاء على السماح ببناء مآذن للجوامع وحصل الرفض على 57,5 في المئة رغم أن المشهد السويسري لا يعرف من المآذن إلا أربعاً في طول البلاد وعرضها.

إن الديمقراطية المباشرة مثالية الفكرة ولكنها صعبة التطبيق وتحتاج إلى مستوى مرتفع من الوعي بالمصلحة العامة. وقد تلجأ كثير من المجموعات المتطرفة إليها في إطار اللعب على أوتار الطائفية أو العنصرية أو المناطقية. فإن كان المختصون يُحذّرون من اللجوء إليها في دولة عريقة التجربة الديمقراطية كفرنسا، لما تحمله من سلبيات، فمن شبه المؤكد بأن اللجوء إليها في دول ضعيفة التجربة الديمقراطية وضحلة الثقافة السياسية يمكن أن يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.

كلمات مفتاحية