الديمقراطية التركية وحسابات الآخرين

2019.09.25 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عاشت الدولة التركية تجربة التحوّل من شكل السلطنة إلى شكل الجمهورية. كان ذلك نتيجة للهزّات العميقة التي أصابت جسد هذا الكيان، وبعد أن كانت السلطنة العثمانية خلال عدّة قرون من القوى العظمى في العالم، باتت وريثتها التركيّة دولة هزيلة بالكاد تتلمّس طريقها بين الأمم الصاعدة في بدايات القرن العشرين. مع ذلك فقد استطاعت تركيا خلال أقلّ من قرن من الزمان أن تثبت حضورها في النظام العالمي بصيغته الراهنة، خاصّة منذ أن استلم حزب العدالة والتنمية الحكم في العام 2002، حيث قفزت مؤشرات التطوّر كثيراً على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لكن يبقى أهمّ تلك المؤشرات الممارسة السياسية التي تعززت من خلالها التجربة الديمقراطية بشكل كبير.

لا شكّ بأن الديمقراطية صيغة عامّة فضفاضة، لذلك تحمل في طيّاتها كثير من تجارب الشعوب التي أضفت عليها عبر التاريخ نكهات متعددة وصيغ مختلفة. إنّها مصطلح واسع يدلّ على شكل الحكم في بلد ما، وبالأخص التداول السلمي للسلطة. بالنسبة للمجتمع والأفراد تعني الديمقراطية حريّة الإعلام والصحافة، حريّة التظاهر والاحتجاج السلمي، حريّة الرأي والمعتقد، تعدد الأحزاب، اتّساع مساحات عمل منظمات المجتمع المدني، وكثير من الأسس التي رسّختها التجربة الإنسانية عبر العقود. تعتبر هذه المسائل بمثابة أدوات لتحقق الديمقراطية وانتقالها من صيغة الشعارات إلى مستوى الواقع والممارسة العملية. تُترجم عادة نتائج هذه الممارسة في مجتمع ما من خلال الانتخابات، ومعلوم أنّ ذلك يتمّ بمستويات ثلاثة، انتخابات محليّة بلدية وثانية برلمانية وثالثة رئاسية.

لقد بدأت الديمقراطيّة في القرن الخامس قبل الميلاد في دويلات اليونان وخاصّة في أثينا. في ذلك الوقت كانت الديمقراطية تعني حكم الشعب، وكان المقصود بالشعب فئة السادة الأحرار، فكانت النساءُ مثل العبيد خارج إطار هذا التصنيف، وبالتالي فهما خارج مفهوم الشعب ولا يشملهما مُصطلح الحكم. في تلك الأزمنة كانت أعدادُ الناس قليلة نسبياً، لذلك كان شكل الديمقراطية المباشرة هو السائد، فكان الناس ينتخبون من بين صفوفهم مباشرة حكّامهم.

هذا الشكل البسيط لم يعد مناسباً بعد أن اتسعت مساحات الدول وازدادت أعداد المواطنين بشكل هائل في أزماننا الحاضرة. لذلك نجد أنّ الديمقراطية التمثيلية هي الشكل المناسب لاختيار الناس حكّامهم، حيث يتمّ انتخاب النواب مباشرة، ويقوم النواب بإعطاء الحزب الفائز بأعلى الأصوات الشرعية لتشكيل الحكومة، وعند تعذّر ذلك يتمّ اللجوء إلى التحالفات والائتلافات بين الأحزاب المختلفة. كذلك هو حال الانتخابات الرئاسية والبلدية مع بعض الاختلافات الطفيفة.

المصلحة الوطنيّة العليا، هي المحصّلة النهائية لمجموعة المصالح الخاصّة بالفئات المختلفة في مجتمع ما

باعتبار أنّ الديمقراطية تعني الآن بالمفهوم الواضح حكمُ الأغلبية السياسية، وقبول الأقليّة بهذا الحكم، وممارستها دور المعارضة التي تراقب وتجادل، فهذا يعني وجود آراء مختلفة وقد تكون أحياناً متناقضة. هذا الأمر طبيعي واعتيادي في كل المجتمعات، فليس هناك رأي واحد ومصلحة واحدة إلّا في النظم الشمولية المحكومة بالاستبداد والديكتاتورية. فالمصلحة الوطنيّة العليا، هي المحصّلة النهائية لمجموعة المصالح الخاصّة بالفئات المختلفة في مجتمع ما. وهذا الأمر تحدده التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المختلفة ضمن الإطار السياسي المرعي في هذه الدولة أو تلك، وليس إرادة الحاكم الفرد كما في النظم الديكتاتورية.

من الطبيعي اختلاف وجهات النظر بين الفئات السياسية المتعددة، ومن الطبيعي أن يكون هناك تواصل بين هذه الفئات بعضها البعض من جهة، وبينها وبين جهات خارجيّة، لكن يبقى المعيار الأهم هو مراعاة المصلحة الوطنيّة العليا وتقديمها على المصالح الحزبية والانتخابية، وهذا كلّه محكوم ومضبوط بإيقاع الدساتير والقوانين الداخلية في هذه البلدان.

أظهر التدّخل الروسي في الانتخابات الأميركية عام 2016 أهمّية هذا الأمر، ليس لأنها المرّة الأولى التي يتمّ فيها التدخّل، لكن لأنها المرّة الأوضح على مدى تأثير التدخل الخارجي على نتائج انتخابات أعظم وأقوى دولة في العالم. كانت التدخلات تحصلُ عادة بأدوات سياسية تؤثر على أمزجة وآراء الناخبين بشكل غير مباشر، كافتعال حدث ما يتمّ من خلاله دعم أحد المرشحين، أو تقديم تبرعات لحملته الانتخابية، أو أن يتمّ افتعال أحداث أمنية ما ذات تأثيرات سياسية باتجاه معين، مثل إطلاق صاروخ هنا أو تفجير مقهى هناك، أو إطلاق سراح رهينة أو تسليم جثمان مقاتل أو الإفراج عن جاسوس أو رصيد بنكي.. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُعدّ وتحصى.

تكمن أهميّة التدخل الروسي في شكل التدخل وطريقته، فقد قامت أجهزة الاستخبارات الروسية بذلك من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ذات الانتشار الواسع، ومن خلال حملات مكثّفة خاطبت من خلالها فئة محددة من الناخبين الأمريكيين بلغة يبحثون عنها ويرغبون سماعها بشدّة. أثبت هذا الأمر أنّ الشعبويّة سلاح فعّال وفتّاك، فمخاطبة الغرائز تأتي بنتائج أسرع من مخاطبة العقول. لقد دعم التدخّل الروسي الخطاب الشعبوي التمييزي للمرشح الجمهوري آنذاك الذي فاز بالانتخابات بشكل مفاجئ للجميع. كان خطاب ترمب موجّهاً لفئة الناخبين البيض وخاصّة منهم الرجال، وقد نجح بشكل ملحوظ بدعمٍ كبيرٍ من مواقع وحسابات وهميّة عززت موقفه وشككت بخطاب ومواقف منافسته الديمقراطية، السيدة هيلاري كلينتون.

مقاربة التدخلات الأجنبيّة في الانتخابات الأمريكية أو الروسية أو التركية أو الفنزويلية أو أي انتخابات أخرى في العالم، تعطينا صورة واضحة عن الأهميّة التي توليها الدول لمراعاة مصالحها من خلال دعم مرشحين أفراداً أو أحزاباً قريبين منها أو متفهّمين لاحتياجاتها على الأقل. يبقى العامل الأهم في ذلك كلّه كيف يوظّف الأفراد وكيف تستفيد الأحزاب من هذا التدخّل لتحقيق أجنداتها السياسية.

تركيا تقف على مُفترق طرق كبير الآن، فبعد أن كان النموّ الاقتصادي عنوان الحقبة الماضية من عمر الدولة التركية.. بدأنا نشهد الآن بعض الركود والتقلّب في هذا المجال

يمكن طرح التدخل الخليجي والإسرائيلي في الشؤون التركية من خلال دعمها لأحزاب المعارضة في مواجهة حزب العدالة والتنمية الحاكم كمثال راهن على ذلك. لا شكّ بأن تركيا تقف على مُفترق طرق كبير الآن، فبعد أن كان النموّ الاقتصادي عنوان الحقبة الماضية من عمر الدولة التركية، تلك الحقبة التي استلم فيها حزب العدالة والتنمية زمام السلطة، بدأنا نشهد الآن بعض الركود والتقلّب في هذا المجال. ليس الاقتصاد بمعزل عن السياسة، ففي مرحلة المدّ والصعود التي عاشها حزب العدالة وخاصّة نظريّة تصفير المشاكل، كان النجاح والنموّ حليف الجميع، لكن الآن، وفي لحظات الانقسام الكبرى التي يعيشها هذا الحزب، وصراعات الأجنحة المنافسة لزعيمه أردوغان، والتذمّر الكبير من سياساته ومواقفه، بدا أنّ التأثير يطول الدولة وليس الحزب فقط.

تلعب أحزاب المعارضة أدواراً هامّة في محاصرة حزب العدالة والتنمية، ولعلّ الموقف من الصراع في سوريا، والموقف من الاتحاد الأوروبي والعلاقات مع إسرائيل ودول الخليج من أهمّ محاور الشدّ والجذب بينها وبين الحزب الحاكم. لا ننسى أيضاً الصراع الواضح بين محوري الحلف الغربي والحلف الأوراسي. لقد أوضحت نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة مدى التذمّر الشعبي من سياسة الحزب الحاكم، فالناخبون الأتراك يتطلّعون باستمرار إلى الأمام والأفضل، لم يعد يكفيهم ما أنجزه لتركيا حكم حزب العدالة من ازدهار ونموّ وتطور خلال العشرين عاماً الماضية، إنهم يبحثون عمّا هو أكثر. الاستناد إلى الإرث الغابر لا يكفي للفوز بقيادة المستقبل، هذه هي رسالة الناخب التركي للحزب الحاكم. فهل يقرأ الرئيس أردوغان الرسائل ويستمع لنبض صناديق الاقتراع، وهل يعيد النظر في أسباب انفضاض قيادات الحزب ورفاق الدرب عنه، أم ينتظر ليرى بأمّ عينه نتائج الانتخابات القادمة؟ هذا ما ستجيبنا عليه الأيام.