الديمقراطية الألمانية - بون: الديمقراطية المسلحة بالمواد الخالدة

2021.01.27 | 00:17 دمشق

althwr_ly_qnblt_mn_alhrb_alalmyt_fy_brlyn.jpg
+A
حجم الخط
-A

في مادة سابقة على موقع تلفزيون سوريا تم تناول الديمقراطية الألمانية الأولى التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى تحت اسم جمهورية فايمار نسبة لمدينة فايمار التي تم الإعلان عن الدولة فيها، وكيف أن "الإسراف" في الديمقراطية أدى لاستقطاب يميني يساري حاد وسيطرة القوى المتطرفة على مسارات القرار في العملية السياسية لعدم توافر أطر تشكلها مبادئ أساسية تحصن الديمقراطية من خطورة التمادي فيها واستغلالها من أجل تخريبها هي ذاتها، وكيف أن هذا الأمر برمته أدى إلى صعود اليمين النازي الذي استولى على الحكم ثم صادر الدولة وقاد ألمانيا إلى عملية من التدمير الذاتي التي نتجت عنها في النهاية حرب عالمية ثانية.

كانت نهاية الحرب العالمية الثانية ودخول الحلفاء لبرلين والقضاء على النظام السياسي النازي نقطة انطلاق عملية بناء الديمقراطية الألمانية الثانية، التي وجب بناؤها في خضم تحديات عديدة على المستوى الخارجي والداخلي، فقد أدت الحرب في البداية إلى تقسيم ألمانيا إلى ثلاثة أقسام يقبع كل منها تحت وصاية دولة من الحلفاء، يضاف إلى بعض المناطق الشرقية التي تم اقتطاعها ووضعها تحت الإدارة البولندية، بشكل أو بآخر منطقة ثانية خاضعة للاحتلال السوفييتي.

تم تقسيم البلاد في مؤتمر يالطا الشهير إلى مناطق نفوذ بريطانية وأميركية وسوفييتية، بينما تم تقسيم العاصمة برلين إلى ثلاثة أقسام بدورها، كما تم إيجاد مكتب مراقبة مشترك، وفي مؤتمر بوتسدام جاء الاتفاق بين الدول الأربعة المشاركة (بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وفرنسا) على البدء بإطلاق العملية السياسية والاقتصادية في ألمانيا، إلا أن حلفاء الأمس - أعداء اليوم لم يعودوا متفقين على سياسة واحدة، وبذلك وضمن دينامية مهووسة لتعزيز بؤر الاحتلال في كل قسم من أقسام ألمانيا رغبة في بلورة نوع من الاستقرار يساعد على تقوية موقف كل من الدول المنخرطة في الحرب الباردة التي ما زالت وليدة حينها لم تعد السياسة الألمانية سياسة واحدة، ولا الاقتصاد الألماني اقتصاداً واحدا، وبدأت مناطق النفوذ الروسي تبتعد في تشكيل نظامها السياسي والاقتصادي عن المنطقتين الغربيتين اللتين راحت الإجراءات المتخذة فيهما تقربانهما من بعض أكثر مبتعدتين في الوقت نفسه عن المناطق الشرقية، ورغبة في تثبيت الجدار الحديدي (كما سماه تشرشل يومها) الذي يحدد خطوط النفوذ الدولية في الحرب الباردة تم العمل أكثر على تماهي المنطقتين الغربيتين في وجه المنطقة الشرقية، ودخل المجتمع الدولي في شكل جديد تحت الثنائية القطبية الجديدة وبدأت الدول تندرج تحت مسمى الدول الحليفة لكل من القطبين الجديدين، السوفييتي والأميركي، أو بمعنى أصح للتسمية الدول العميلة، وكانت ألمانيا المدمرة في عين العاصفة. بدأت المناطق الغربية تستخدم المارك الألماني الجديد الذي تم إصداره بالاعتماد على رصيد من الدولار الأميركي ضمن خطة إصلاح اقتصادي راديكالية، وكانت المنطقة الاقتصادية الواحدة قد دمجت منذ بداية عام 1947 بين منطقتي النفوذ البريطانية والأميركية.

لا بد من الإشارة إلى أن المعروف عالمياً بالمعجزة الألمانية، على أهمية مشاركة الألمان فيها، إلا أنها في واقع الحال "معجزة أميركية" في ألمانيا

في تلك الأثناء أدت النتائج الاجتماعية والاقتصادية في ألمانيا وغيرها من الدول التي شاركت في الحرب إلى ظروف كارثية، في ألمانيا انهارت البنية التحتية والإنتاج الصناعي بشكل كامل، وسقط ملايين من الرجال إما قتلى في الحرب أو وقعوا في الأسر، والمباني السكانية كانت تعاني دماراً هائلا خاصة في المدن الكبرى، في حين تم نهب المنشآت الصناعية وبشكل رئيسي في المناطق السوفيتية، وبات واضحاً أن إعادة إعمار ألمانيا دون دعم خارجي ضرب من ضروب المستحيل، ولا بد من الإشارة إلى أن المعروف عالمياً بالمعجزة الألمانية، على أهمية مشاركة الألمان فيها، إلا أنها في واقع الحال "معجزة أميركية" في ألمانيا، حيث تم في ضوء مشروع مارشال الذي رفضه الروس في مناطق نفوذهم إمداد المناطق الغربية ب ٤ مليارات دولار بين 1946 وحتى عام 1952، يضاف إليها إلى قيمة إقراض ب ٣ مليار دولار في نفس الفترة، وقد وافقت فرنسا المتهيبة دائما من ألمانيا على خطة الدعم لأنها جاءت في ضوء دعم لدول أوروبا الغربية في عمومها.

على المستوى السياسي تم تقسيم المناطق الغربية لإحدى عشرة مقاطعة منها جاء حسب المقاطعات التقليدية، ومنها ما تم تشكيله حديثاً ليتناسب مع القدرة على السيطرة على المقاطعات، وتم تطبيق القانون ١٠٤ القاضي باجتثاث النازية من الدولة الألمانية، والذي تم تطبيقه مبكرا في كل مناطق النفوذ، ففي المناطق الخاضعة للنفوذ السوفييتي اتبعت سياسة راديكالية في الاجتثاث أشبه بتلك التي حدثت في العراق تحت مسمى اجتثاث البعث، في حين جاءت في مناطق نفوذ الأميركان والبريطانيين ضمن درجات تتناسب مع مدى الارتباط بالنازية.

في الوقت نفسه خرجت ألمانيا من الحرب دون أحزاب سياسية، فقد قضى النظام القومي الاشتراكي "النازي" على كل الأحزاب تحت سياسة الحزب الواحد، ولكن سرعان ما بدأت الأحزاب تعود لتتشكل، إما بناء على استمرارية الأحزاب التقليدية مثل الحزب الديمقراطي الاشتراكي (SPD) أو الأحزاب التي تشكلت حديثا مثل الحزب المسيحي الديمقراطي (CDU)، وبدأت تلك الأحزاب تنشط في المقاطعات وتخوض الانتخابات التي أشرفت عليها قوات الاحتلال والتي أدت إلى بناء مؤسسات ديمقراطية في المقاطعات، وفعليا كانت حكومات المقاطعات حكومات حزبية، في حين شكل رؤساء الحكومات الشخصيات المركزية في أحزابهم.

في شباط 1948 عقد مؤتمر لندن تحت مسمى مؤتمر القوى الست (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، دول البينلوكس "بلجيكا، هولندا، لوكسمبورغ") وخرج المؤتمر بتوصيات لندن التي تدعو لبناء عملية سياسية واقتصادية في المناطق الغربية لألمانيا، وتشكيل مكتب إدارة لمنطقة حوض الرور الاقتصادية المهمة على المستوى الأوروبي، وفي أول تموز من العام نفسه تم تسليم وثائق فرانكفورت - التي فصلت توصيات لندن - من قبل الحكام العسكريين للمقاطعات الألمانية لرؤساء وزراء المقاطعات الغربية الإحدى عشر، وبناء عليه تم الاجتماع في كوبلنز لمناقشة تلك التوصيات وكتابة الدستور الألماني، ورفض رؤساء الوزراء دعوة الحكام العسكريين للجنة تأسيسية لكتابة الدستور، وذلك رفضا للتسليم بحقيقة تقسيم ألمانيا، وبدلا من ذلك دعوا لمجلس برلماني يصوغ قانوناً أساسياً، ولا يحصل عليه استفتاء، وإنما يتطلب استشارة برلمانات المقاطعات ريثما تعود المناطق الشرقية لتندمج في الدولة.

اجتمع رؤساء الوزراء على جزيرة هيرنشيمسيه ليكتبوا القانون الأساسي، وكان معظم هؤلاء سياسيين لديهم تجربة سابقة في جمهورية فايمار، لذلك كانوا يضعون نصب أعينهم هدفاً رئيسياً، تجنب الأخطاء القاتلة في جمهورية فايمار، وتقييد الحرية المنفلتة في ضوء النظام الديمقراطي، بمعنى أكثر وضوحاً، تسليح الديمقراطية ضد أعدائها، واعتمد السياسيون على سلك طريقين لغاية تسليح الديمقراطية، كان الطريق الأول هو إقرار المبادئ الأساسية للدستور، وجاءت تلك المبادئ بأن ألمانيا دولة اجتماعية، تجلى ذلك بشكل رئيسي في المادة الأولى من دستورها تحت عبارة "كرامة الإنسان مقدسة لا يمكن المساس بها" كما ظهر في أكثر من بند في القانون الأساسي من خلال ضمان الحريات الخاصة والعامة والمساواة بين الجنسين وحماية الملكية ومسؤوليتها الاجتماعية، في حين جاءت المبادئ الأخرى أشد وضوحاً في المادة عشرين من القانون الأساسي، فألمانيا دولة فيدرالية لا مركزية، وهو شرط دولي أيضاً لمنع عودة المركزية والنزعة القومية من خلال توزيع السلطات بشكل أوسع، وثالثا ألمانيا دولة قانون يكون فيها القانون فوق السلطة وكافة المعاملات الحكومية والعلاقات بين الدولة والمجتمع يحب أن تكون منصوصة بنص قانوني، وألمانيا دولة ديمقراطية حيث أن السلطة لا تمتلك شرعيتها فقط في حكم الشعب، وإنما أن تكون مستمدة من الشعب، وجاءت الترجمة المباشرة عبر إقرار نظام الانتخابات والتعددية الحزبية.

كانت هذه المبادئ الأساسية الأربعة هي المرتكز الذي تأسس عليه القانون الأساسي الألماني، وجعل المؤسسون من موضوع تعديل الدستور أمراً شبه مستحيل، فحسب المادة 79 من القانون الأساسي المعنية بتعديله تشترط المادة موافقة أكثر من ثلثي البرلمان المركزي (البوندستاع) وأكثر من ثلثي المجلس الاتحادي (الوبندسرات) مجتمعين للموافقة على تعديلات دستورية، على أن المادتين الأولى والمادة عشرين من الدستور، وهي المواد المعنية بالمبادئ الأساسية لا يمكن تعديلها بأي حال من الأحوال، بمعنى أن السلاح الأول للديمقراطية كان "خلود المبادئ الأساسية"، ليتم الإعلان عن القانون الأساسي المعزز للديمقراطية في العاصمة المؤقتة بون في 23 أيار من عام 1949 ويدخل حيز التنفيذ في اليوم التالي.

في حال ثبتت معاداة إحدى الأجسام المدنية أو السياسية للنظام الديمقراطي الحر يتم حلها من قبل وزارة الداخلية في حال الجمعيات، والمحكمة الدستورية الاتحادية في حال الأحزاب

الطريق الثانية جاءت في الإجراء المباشر ضد ما سمي بأعداء الدستور، أي الذين لا يقبلون بالمبادئ الأساسية، حيث لا حرية لأعداء الدستور، وفي سلسلة من أحكام ومواد القانون الأساسي تؤكد على حرمان الأفراد والمجموعات "مؤسسات، أحزاب، جمعيات" من حقوقها الأساسية في حال معاداتها للنظام الديمقراطي الحرFreiheitlich-demokratischen Grundordnung FDGO) وهذا النظام الديمقراطي الحر ليس عبارة مبهمة، بل تم ترجمته ب: حقوق الإنسان، سيادة الشعب، توزيع السلطات، مسؤولية الحكومة، حق المعارضة والتعبير، شرعية الإدارة، تكافؤ الفرص بين الأحزاب وضمان التعددية الحزبية، استقلالية القضاء.

في حال ثبتت معاداة إحدى الأجسام المدنية أو السياسية للنظام الديمقراطي الحر يتم حلها من قبل وزارة الداخلية في حال الجمعيات، والمحكمة الدستورية الاتحادية في حال الأحزاب، كما يتم حرمان الأشخاص من بعض حقوقهم الأساسية.

إضافة لتلك الأدوات التي تسلح الديمقراطية صدر في 1972 ما يسمى بالمرسوم الجذري أو الراديكالي الذي ينص على منع أعداء الدستور من العمل (اختراق) مؤسسات الخدمات العامة، وحتى الآن يعتبر هذا المرسوم مثار جدل لعدم وجود محددات معينة يمكن ترجمتها به.

جاءت النازية بعد سقوط الديمقراطية الأولى درساً مؤلماً بالنسبة للألمان تعلموا منه تسليح ديمقراطيتهم التي كانت عزلاء.

إن الدروس المستخلصة من التجربة الألمانية في ديمقراطيتها الثانية تختصر في محورين رئيسيين:

أهمية العامل الخارجي، ومدى كونه عاملاً مساعداً على تدعيم الديمقراطية من عدمها، فعلى سبيل المثال وإضافة لكل الدعم الاقتصادي والسياسي الذي قدمته الولايات المتحدة لألمانيا الغربية فقد احتفظ الحكام العسكريين للمقاطعات أثناء دعوتهم رؤساء الوزراء لكتابة الدستور بحق رفض المشروع في حال استغلاله ليكون معاد للديمقراطية، ووضعت الولايات المتحدة وحلفاؤها كل الإمكانات اللازمة لإنجاح مسيرة الديمقراطية في ألمانيا الغربية، في حين لعب الاتحاد السوفييتي في مناطقه دوراً معادياً للديمقراطية، ما أنتج ألمانيا الشرقية التي لم تختلف عن أي منطقة من مناطق العالم الثالث حينها.

المحور الآخر كان في الثقافة الديمقراطية لدى النخب السياسية الألمانية التي تم بناؤها بناء على خبرة مسبقة في جمهورية فايمار، وممارسة عملية في المؤسسات الديمقراطية التي نشأت في المقاطعات الغربية، ما لم نشهده في سوريا لا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ولا في التيارات السياسية خارج الغرفة الجغرافية السورية.