الدولة في العراق وصراع الإرادات على السلطة

2022.09.27 | 07:32 دمشق

الدولة في العراق وصراع الإرادات على السلطة
+A
حجم الخط
-A

ليست الأزمة الراهنة في العراق وليدة أوضاع ما بعد الاحتلال الأميركي فقط، ولا هي مجرّد انعكاس للتدخل الإيراني في معظم المفاصل السياسية والعسكرية والأمنية فحسب، بل هي في الأساس نتيجة طبيعية لضعف الدولة الوطنية، الذي خلّف فجوات في الهُويّة العراقيّة، وجروحاً غائرة في شرعية السلطة الحاكمة، منذ بدايات التأسيس الأولى بعد الانتهاء من عصر الإمبراطورية العثمانية والدخول تحت الوصاية والاحتلال الإنكليزي. إضافة إلى ذلك، نجد أنّ سياسات الحوكمة المتّبعة في مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي قد عمّقت من أزمة الدولة وزادت من ضعفها مقابل الانتماءات القبليّة والطائفية والقومية.

لم تتشكّل الهويّة الوطنيّة في العراق، كما في بقيّة دول المنطقة العربية الأخرى، بمعزلٍ عن فضاءين ثقافيين متنافسين من منظور أتباعهما، هما القوميّة العربية والدين الإسلامي. فكانت فكرة الانتماء إلى أحدهما عند الجماعات والنخب السياسية والثقافية أسبق من الانتماء للدولة القطرية أو الوطنية ذاتها، وفي أفضل الأحوال لم تكن تتعارض معها، بل تكمّلها. لقد ساهم ارتباط الدولة الحديثة وفق المفهوم الويستفالي بالاستعمار الكولينيالي القادم إلى منطقتنا، بتعزيز حالة الشقاق أو الرفض الضميرية للدولة الوطنية، أو على الأقل عدم رفع الانتماء إليها فوق مصافّ الانتماء إلى القومية أو الدين. لقد رأت النخبُ العربية المختلفة في نموذج الدولة الحديثة القادم إليها مع حراب بنادق المستعمر، تحطيماً للبنية المجتمعية القائمة على أساس الوحدة القومية العربية من جهة القوميين، أو الوحدة الدينية من جهة الإسلاميين، وكانت هذه من الأسباب الرئيسة لضعف بنى الدول العربية.

غياب الحقوق المستندة إلى مبدأي المساواة والعدالة، اللذين هما جوهر فكرة الدولة الحديثة، يجعل من الواجبات حملاً ثقيلاً ينوء تحت وطأته كاهل أفراد المجتمع

يخلق ضعف الدولة الوطنيّة فراغاً في فكرة الانتماء، ويشكّل غياب الهويّة الوطنية الجامعة ثغرة في بنيان المجتمع، فلا يعود هناك ما يربط الأفراد والجماعات خارج أطر انتماءاتهم الحميمية. يجعل هذا كلّه من البحث عن مرجعيّة أو رمزيّة أو سلطة توجيهية أمراً مشروعاً للجماعات المتمايزة، كذلك للأفراد الباحثين على الدوام عن تعريف أنفسهم. فغياب الحقوق المستندة إلى مبدأي المساواة والعدالة، اللذين هما جوهر فكرة الدولة الحديثة، يجعل من الواجبات حملاً ثقيلاً ينوء تحت وطأته كاهل أفراد المجتمع، وتصبح الدولة محلاً للصراع بين الجماعات التي تحاول الاستئثار بها لبناء سرديّة وطنيّة تاريخية تعزز من شرعيّة الاستئثار ذاته، وتنفي عن الخصوم أي شرعية بالمقابل.

يُورثُ ضعفُ الدولة منافسة بينها وبين الجماعات الإثنية والقومية والدينية والطائفية التي تتشكل منها، ويعني هذا بشكل أدقّ منافسة الدولة من قبل هذه الجماعات على سلطتها السياسية، التي تعني بشكل أو بآخر احتكار الدولة العنف المفروض بالقانون داخلياً، واستئثارها بالعلاقات الدولية خارج حدودها السياسية. يفتح ذلك الضعف مجالاً لتطاول الجماعات على السيادة، فيصبح لها ارتباطات مع دول أخرى أو كيانات أجنبية بشكل مباشر دون المرور بمؤسسات الدولة الرسمية، أو حتى عبرها، ولكن خارج أطرِ الموجبات الدستورية التي تعمل وفقها وتؤدي وظيفتها فيها. هنا يستقوي الخصوم الداخليون على بعضهم بعضا وعلى الدولة بالخارج، فتصبح المرجعية هنا خارج حدود الدولة لا داخلها، لأنّ من يمدّ الأطراف المتصارعة بأسباب البقاء والتمكين ليس الشعب، بل عناصر خارجيّة مستقلة، وتعمل لتحقيق مصالحها الخاصّة من خلال هذه الجماعات أيضاً.

من هنا، يمكن قراءة المشهد العراقي بالعموم دون الحاجة للدخول في تفاصيل الصراعات الميدانية بين هذه الجماعة أو تلك. مع ضرورة التأكيد على أنّ طبيعة المؤسسة الشيعية العراقية، وتسلسلها الهرمي، وتعبيرها عن حالة أقلّوية طائفيّة في العالم الإسلامي تسعى للحفاظ على كيانها ضمن بحر السنّة الكبير، جعل منها بنية فاعلة بشكل واضح في هذا الصراع بعد الاحتلال الأميركي، خاصّة مع الاستقواء بإيران على الخصوم العرب السنّة بالدرجة الأولى وعلى الأكراد بالدرجة الثانية، وكلّ ذلك على خلفيّة الاستناد إلى المظلوميّة التاريخية التي جعلت نظام الحكم في الدولة سنّياً لا عراقياً. يُضاف إلى ذلك ضعف البنية التنظيمية لسنّة العراق، الذين كانوا بشكل أو بآخر غير مضطرّين تاريخياً لإيجاد مرجعية هرمية عليا كما هو حال الشيعة، وهذا ما سهّل عملية شيطنتهم دفعة واحدة من خلال وصمهم بالتطرّف والإرهاب من خلال ربطهم جميعاً بتنظيم الدولة الإسلامية وما سبقها من حركات جهادية متطرّفة عابرة للحدود. لقد كان مصير السنّة العرب في العراق الهلاك ودمار مدنهم وحواضرهم، عندما حاولوا مقاومة تسلّط الميليشيات الشيعية وسيطرتها على الدولة ومؤسساتها المختلفة، وعندما فكروا بتفكيك استئثارها بمصادر الثروة والسلطة.

الهويّة الوطنية لم يكتمل تشكّلها بعد، أو أنّها تشكّلت مشوّهة بولاءات فوق وطنية عابرة للحدود

لن يقوم العراق من كبوته هذه بسهولة، ولن تتوقف الصراعات الداخلية عن حرق الأخضر واليابس، ولن يكون للتيار الصدري أو غيره غلبة مطلقة على بقيّة الجماعات الشيعية المستأثرة بأجزاء كبيرة ومتعددة من الدولة، ولن يتحسّن حال المواطنين العراقيين المعيشي، ولن يتخلصوا من الاحتلالين الإيراني والأميركي ببساطة، لأنّ بنية المجتمع منقسمة، ولأنّ فكرة المواطنة غائبة، ولأنّ الهويّة الوطنية لم يكتمل تشكّلها بعد، أو أنّها تشكّلت مشوّهة بولاءات فوق وطنية عابرة للحدود. لكنّ ذلك كلّه لا يمنع من التفاؤل بالحراك الشبابي العراقي، ففي أوقات الأزمات الكبرى تبدأ التمايزات الحقيقية، وقد شاهدنا مراراً توجّه البوصلة الشبابية باتجاه بناء الهوية العراقية والابتعاد عن الولاء للطائفة، مما ساهم في كشف عورة الاحتلال الإيراني، وبالتالي توجيه غضب الشباب ونيرانهم نحو العدو الخارجي الذي لبس جلد حَمَلٍ ونهش العراق وأهله بأنياب ذئب مفترس.