الدولة العميقة 2

2022.09.11 | 06:07 دمشق

الدولة العميقة 2
+A
حجم الخط
-A

استكمالاً لمقالنا السابق المنشور في موقع تلفزيون سوريا، نعود لطرح مسألة الدولة العميقة مجدداً، ونناقش في هذه المساحة موضوع الدولة العميقة في عدة بلدان منها عربية وإسلامية، ونتطرّق لفكرة الدولة العالميّة العميقة أيضاً.

كان ظهور مفهوم الدولة الحديثة مترافقاً مع مجموعة مهمّة من المفاهيم السياسية والاجتماعية، فارتبطت السيادة بالدولة، وارتبطت الأمّة بالقومية، وبدأ انفصال الكنيسة عن السلطة الزمنية للملوك، أي بدأت العلمنة تأخذ مفعولها في إخراج الدين كعلاقة مع المقدّس، من مساحات الفعل السياسي كعلاقة بين البشر، حاكمهم ومحكومهم. وفي سياق العلمنة، ومع مسيرة بناء الدولة، انتقل الناس من كونهم رعايا الملك تدريجياً ليصبحوا مواطنين في الدولة، وهذا جعل منهم مساهمين حقيقيين في بناء قواعد الاجتماع والسياسة من خلال الأحزاب والنقابات والاتحادات الطوعية، أي من خلال مؤسسات الدولة ذاتها ومؤسسات المجتمع المدني.

ارتبطت فكرة الدولة العميقة في باكستان بظروف نشأتها كدولة انفصلت عن الهند ضمن سياق تاريخي، كان دافعه الخوف على الأقلية المسلمة من الأكثرية الهندوسية

لكنّ هذا التطوّر لم يكن شاملاً جميع المجتمعات البشرية، فقد ظهر في أوروبا وانتقل منها إلى أستراليا ونيوزلندا وأميركا الشمالية، بحكم الحملات الاستكشافية التي أنتجت الدولة الحديثة هناك على حطام السكان الأصليين ومجتمعاتهم التي لم تستطع المنافسة والبقاء. أمّا في بلدان أفريقيا وآسيا فلم يُتح لمجتمعاتها المحليّة تطوير بنى الدولة ومؤسساتها بنفس الطريقة، وهذا طبيعي باعتبار تطوّر المجتمعات البشرية ليس خطياً، ولا يمكن أن يسير على نموذج واحد. لكنّ هذه المجتمعات التي كانت في غالبيتها خاضعة لنموذج الحكم السلطاني بشكل أو بآخر، أي الحكم الأبوي الذي يعتبر السكان مجرّد رعايا للملوك، يأخذون صفتهم كموضوع للحكم من كونهم مرتبطين بهذا الملك أو ذاك، تعرّضت لهزّات خلخلت بناها نتيجة الاستعمار الغربي، لكنها لم تكن بنفس هشاشة مجتمعات السكان الأصليين في أميركا الشمالية وأستراليا، وبالتالي قاومت هذا الكيان القادم إليها على حراب الغزاة، أي قاومت من حيث النتيجة بنية الدولة الحديثة التي رأت فيها تهديداً لاستقرارها، وإلغاءً لقيمها، وتحطيماً لموروثاتها الثقافية. ومن هنا بدأت تتعزّز الفضاءات الحاضنة لمفهوم الدولة العميقة.

فعلى سبيل المثال، ارتبطت فكرة الدولة العميقة في باكستان بظروف نشأتها كدولة انفصلت عن الهند ضمن سياق تاريخي، كان دافعه الخوف على الأقلية المسلمة من الأكثرية الهندوسية. وقد بقيت هذه النزعة موجودة على الدوام عند النخب الباكستانية، فثمّة عدّو خارجي متربّص، وثمّة ضعف في بنى ومؤسسات الدولة واضح لا يمكن إنكار أنّه يعجز عن حماية الاستقلال وصيانة الدولة. تعزز الانطباع عن وجود الدولة العميقة في باكستان من خلال الانقلابات العسكرية المتكررة، كما كانت حادثة اغتيال رئيسة الوزراء السابقة بنازير بوتو عام 2007 واحدة من المؤشرات على عمق تأثير هذه النخب في الحياة العامّة في باكستان، فقد كشفت تقارير الأمم المتحدة أنّ تحقيقات الشرطة كانت قاصرة وغير قادرة على تحديد المسؤولين عن عملية الاغتيال، خاصّة وأنّ بنازير بوتو كانت قد تعهّدت قبل عودتها من المنفى بالقضاء على جميع الروابط بين العسكريين والجماعات المتشددة، وبإبعاد وكالات الاستخبارات والجيش عن السياسة الداخلية. هنا لم يُتح للدولة أن تأخذ حجمها الطبيعي وأن تتطوّر مثلما حصل مع الدول الأوروبية، فبقي تأثير المؤسسات محصوراً بالبيروقراطية الإدارية الروتينية، لكنّ الحارس الأعلى عند النخب بقي ساهراً معتبراً نفسه وصيّاً على الدولة وعلى مؤسساتها، وهذا ما جعل للجيش والاستخبارات وحتى للمؤسسة الدينية أدواراً وازنة تلعبها فيما يمكن تسميته الدولة الباكستانية العميقة.

هناك من يعتقدُ أنّه ثمّة دولة عالميّة عميقة حتى، تُدير الشعوب والأمم وتوجّه البشرية في مسارات مرسومة من قبلها سلفاً

أما في مصر، فيُنظر إلى مسألة الدولة العميقة من خلال السياق العام الذي تشكلت فيه الأمّة المصرية والدولة الحديثة أيضاً، فقد كان هناك على الدوام هاجسٌ عميق من الغرباء على مصر وطناً وأمّة وشعباً، فهذا البلد لم يُحكم من مصري بعد آخر سلالات الملوك الفراعنة إلا مع حركة الضباط الأحرار عام 1952، أي خلال ما يزيد على ألفي عام. وحتى عندما نهضت مصر على يد محمد علي باشا، فقد كانت في عين العاصفة، حيث تناهبتها الدول الاستعمارية الكبرى وأسقطت حلم الدولة الأمّة المستقلّة. لذلك يبقى في فضاء النُخب المصرية وفي الوجدان المصري هذا التوجّس من المؤامرة الخارجية، ويحوز تبعاً لذلك مبدأ الوصاية من الدولة العميقة، التي تتماهى في كثير من الحالات مع الجيش، يحوز حضوراً وقبولاً واسعين، وقد بدا ذلك جليّاً في الموقف من انقلاب عام 2013 على أول نظام حكم منتخب ديمقراطياً. لا شكّ بأنّ ضعف ثقافة الانتماء إلى الدولة كجهاز كلّي القدرة أسهم في تعزيز دور الجيش في السيطرة على الحكم، وبالتالي التماهي مع مفهوم الدولة العميقة هناك، خاصّة إذا نظرنا إلى تطوّره كمؤسسة عانت من الإهمال في فترة الحكم الملكي، وقفزت إلى أعلى مراتب الرعاية بعد انقلاب الضباط الأحرار.

هناك من يعتقدُ أنّه ثمّة دولة عالميّة عميقة حتى، تُدير الشعوب والأمم وتوجّه البشرية في مسارات مرسومة من قبلها سلفاً، وهذا الرأي، على ضعف إمكانيات التحقق من صحته أو إثباتها، يحظى بقبولٍ واسعٍ لدى كثيرين في العالم، وخاصّة في عوالمنا العربيّة والإسلاميّة المسكونة بهواجس البحث عن الذات، ضمن فضاءات غامرة من الروحانيات والمعتقدات الغيبيّة والإيديولوجيا البعيدة عن حقائق الواقع والتاريخ. تتجاهل هذه الأفكارُ سياقات تطوّر البشر، وقوانين تدافعهم التي أنتجت تاريخهم بما يحتويه من مفاخر واختراعات وتطوّر، ومن مظالم وقبائح وتجبّر، وتقفزُ عن دوافع الأفراد والجماعات الحقيقيّة منذ وجود البشرية، الدوافع البسيطة والواضحة التي تقف وراء صراعاتهم ومزاحماتهم، والتي تتجسّد في تحقيق مصالحهم وتعزيز سيطرتهم وفرض إرادتهم على غيرهم. هذا هو مسار البشرية الحقيقي، وليس ثمّة من يجلس في الغرف المظلمة ليتآمر عليها، بل هناك من يدرس الواقع ويجيّر قوانينه لتحقيق مصالحه، وفي سياق ذلك تُبنى الدول أو تدول، وتنهضُ الأممُ أو تكبو، وتعيش الجماعات والشعوب أو تموت.