الدكتاتورية والمسؤولية الفردية من الرايخ الثالث إلى الرابع

2018.12.14 | 23:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في ظل السلطة الديكتاتورية يتقلّص شعور الفرد أو المواطن بالمسؤولية الفردية إلى حدوده الدنيا تبعاً لتقلص مساحات الحرية وتقييدها ولجمها عبر كل وسائل السلطة وآلياتها المتخيّلة وغير المتخيلة، فتغدو حالة الإنسان أقرب إلى الحيوان أو الآلة التي تعمل من دون إرادة، وتُنجِز من غير تفكير، وعندها لا يضيف مغلول الحرية أفعالَه إليه، ولكن إلى السلطة التي ترفل بالحرية الكاملة، وتتمتع بها طولاً وعرضاً، تماماً مثل من يرسل كلبه المعلَّم لاقتناص الفريسة، فيباشر الكلب الصيد وينجزه ائتماراً بأمر سيده، فيضاف الصيد إلى السيّد الآمر لا إلى الكلب المباشِر.

هل في هذا الكلام مبالغة، أو تضخيم عندما نشبّه هذا الإنسان بالحيوان مرة، وبالآلة مرة أخرى، وهل فعلاً يتوقف الشعور بالمسؤولية الفردية في ظل الديكتاتورية كما نقول وندعي؟

لدينا مثالان ناجزان: الأول عالمي والثاني محلي:

ففي ظل ديكتاتورية الرايخ الثالث كانت القطارات تروح بِطاناً بالمغضوب عليهم من البشر، وترجع خِماصاً خاوية، بعد أن تلقي بهم في الهاوية! من دون أن يشعر الجناة، أو الأتباع، أو المتفرجون أو غير المبالين أنّهم يقومون بالجريمة، أو يسهلونها، أو يساعدون عليها، أو يتغاضون عنها، ومن دون أن يختلّ إيقاع حياتهم التي كانوا يمارسونها: يضحكون، بل يقهقون، ويرقصون، بل ينتشون، وينظرون ولا يرون.

في ظل ديكتاتورية الرايخ الثالث كانت القطارات تروح بِطاناً بالمغضوب عليهم من البشر، وترجع خِماصاً خاوية، بعد أن تلقي بهم في الهاوية!

وعندما انفصلت ألمانيا الشرقية، وخلعت ديكتاتوريتها البائدة، واكتست بدكتاتوريتها الجديدة، فرضت هذه الديكتاتورية أسطورةً تقول: إنّ الألمان الشرقيين لم يكونوا من النازيين أبداً، وأنهم كانوا جميعاً من الشيوعيين، ولذلك لم يكن هنالك من سبب على الإطلاق لتحمّل المسؤولية الفردية، ولا المسؤولية التاريخية عن فظائع الرايخ الثالث، بل لقد ساد في أوروبا الشرقية كلها سرد واحد بأن السكان كانوا دائماً في جانب الاتحاد السوفياتي على الرغم من أنّ العديد من البلدان كانت متحالفة مع ألمانيا النازية خلال تلك الحرب.

أما أبناء ألمانيا الشرقية المسلوبو الإرادة والحرية فعاشوا مرتاحي الضمير، لا يخالطهم شعور بالذنب أو الندم على ما اقترفت أيديهم من مصائب، وما جرّت أرجلهم من ويلات، من خلال إستراتيجية عليا قائمة على الإنكار، وتكتيك متجدِّد دائم معتمد على التعمية.

أما ألمانيا الغربية التي أزاحت عن كاهلها حِمْل الديكتاتورية الباهظ، وأنشدت مع هرمان هسه وصفه لتلك الفترة:

سنواتٌ بلا بركة

عاصفةٌ على كل الطرق

فلا وطن في كل مكان

بل ضلالٌ وخطأ

فإنها أدركت تدريجياً أنّ أجزاء كبيرة من المجتمع كانت تتحمل مسؤولية جرائم الرايخ بدءاً من الجناة، وانتهاءً بغير المبالين، ولذلك قامت على تعزيز الشعور بالمسؤولية الفردية، والتفكير النقدي، وتدعيم الديمقراطية، وتمكين الحوكمة، وثقافة الاعتراف بالأخطاء.

ولأنَّ "الاعتراف يزيل الاقتراف"، كما نقول في تراثنا العربي، اعترفت ألمانيا الغربية بمسؤوليتها عن الفظائع التي ارتكبتها، بلا مراوغة ولا دهاء ولا أحابيل، وبدأت تسدِّد ديونها، ولم تلتفت إلى جارتها المسخ ألمانيا الشرقية التي جحدت تلك الديون، وأنكرتها، ولم تتعلّل ألمانيا الغربية بهذا الإنكار قائلة: لا أدفع حتى تدفع ألمانيا الشرقية.

أما نتيجة التاريخ الذي عايشناه وشاهدناه فأخبرتنا أن العاقبة كانت للذين رعوا مسؤولياتهم الفردية والتاريخية حق رعايتها، فكانت لهم الغلبة واليد العليا، وأما الذين لم يشعروا بالذنب، وفقدوا إحساسهم بمسؤوليتهم الفردية والتاريخية فعاشوا في أسىً وضنك، وكان انهيار الجدار، وتدفق الملايين عبره هو الدليل على أن الفقر ينزع دائماً نحو الغنى، غنى الكرامة والحرية، وأنّ النقص يشتاق أبداً إلى الكمال، ويعدو صوبه، كمال الشعور بالمسؤولية، وكمال الشعور بالإنسانية.

وفي ظل سلطة الأسد الرايخ الرابع وقف ملايين السوريين من وراء أسلاك المخيمات، ومن وراء البحار والقفار في بلاد اللجوء والشتات وهم لا يرقأ لهم دمع ودم، ينظرون إلى مؤيدي الأسد وعبيده

وفي ظل سلطة الأسد الرايخ الرابع وقف ملايين السوريين من وراء أسلاك المخيمات، ومن وراء البحار والقفار في بلاد اللجوء والشتات وهم لا يرقأ لهم دمع ودم، ينظرون إلى مؤيدي الأسد وعبيده ممن لا يهتزّ لهم جفن، ولا يختلج لهم عرق، وكأنهم نسخة ممخوطة من مؤيدي الرايخ الثالث وجمهوره! حشود تدبك، وترقص، وحشود تصفّق، وتصفّر، وحشود يُبَح صوتها، وهي تدعو للانتقام والإبادة، وحشود تسجد وتقبّل البيادة.

حشود ومسيرات يمور بعضها في بعض، ويختلط فيها العامي الخشن الأهوج، بالشاعر الرقيق الأدعج، والمثقف الوادع اللطيف، بالشيخ التقي الشفيف. حشود بلا مسؤولية جماعية، وأفراد بلا شعور بالمسؤولية الفردية، فالجريمة التي يتغاضون عنها لا تعنيهم، والكارثة التي هي جزء منهم لا تلفت نظرهم، وحتى الفجائع والمصائب التي تترى وتنصبّ على الواحد منهم، وتناله شخصياً، أو تنال أهل بيته أو أقربائه أو أصدقائه أو جيرانه أو معارفه، فإنهم يؤوِّلونها المرة تلو الأخرى على أنها ضرورية ومعقولة، بل ولائقة بأفضل العوالم الممكنة، وهكذا ينامون بضمائر مرتاحة، من دون شعور بذنب، ومن غير تأنيب ضمير، كما نام قبلهم شعب ألمانيا الشرقية متخففاً من عبء النازية تخففاً كاذباً صورياً مدّعى.

في مقابل ذلك كان طالبو الحرية والمتحققون بها من معارضي الرايخ الرابع في أعلى درجات الشعور بالمسؤولية الفردية، وتجلى هذا الشعور أمام كل جريمة حصلت في سوريا، ليس التي باشرتها السلطة الأسدية فقط، وإنما أمام كل جريمة نزّت عنها داعش أو جبهة النصرة، أو تنويعاتهما، أو جيش الإسلام، أو أي فصيل من فصائل الجيش الحر، وكانوا في كل مرة يجأرون ويجهرون في إعلان موقف البراءة، وبيان الاستنكار، والرفض، والدعوة للمحاسبة والمعاقبة، وما كان يقتصر ذلك على الجرائم الكبرى فحسب، بل يتعداه إلى رصد المواقف التي يعلوها غبار البؤس، أو الأفكار التي يحيق بها قَتَر القتامة والتفاهة، فكانوا ينكرونها، ويشنعون على قائليها، في حالة ثورية دائمة مستمرة منتفضة، وكم من طاهر مخلص دفع ثمن ذلك عندما سال دمه الأرض غيلةً وغدراً، فغدا شهيد الثورة شهيد المسؤولية التي كانت تطوِّق عنقه، بل كيانه كله.

لقد كان الأحرار يشعرون دائماً أنهم أول المعنيين، وأنهم أول المسؤولين، وأنهم أول المطالَبين ببيان الرأي، واتخاذ الموقف

لقد كان الأحرار يشعرون دائماً أنهم أول المعنيين، وأنهم أول المسؤولين، وأنهم أول المطالَبين ببيان الرأي، واتخاذ الموقف، ذلك أن الحرية التي يتحققون بها كانت تبثّ فيهم المصل المركّز للشعور بالمسؤولية الفردية، إلى درجة يرى المرء فيها نفسه مسؤولاً عن كل تصرف شائن، أو عمل قبيح، أو قول منكر يمكن أن يؤذي أي طفل، أو امرأة، أو عجوز، أو شاب أو رجل، أو أي حجر أو شجر أو مدر.

أما أبناء الرايخ الرابع وأحباؤه فكانوا كلما جردهم رايخهم من الحرية أكثر، وجللهم بالخوف والعار بشكل أفظع انكمش شعورهم بمسؤوليتهم الفردية إلى حدٍّ يخرجهم من بشريتهم، فيتركهم في برودٍ صقيعي يمنعهم من الاستجابة والتفاعل مع أفدح صور الجريمة التي تضج لها الكائنات، ويدعهم في شكٍّ عالي الحساسية يكذّب كل ما من شأنه أن يرسل خيط شعاع من سؤال في أذهانهم ونفوسهم، ويصرفهم إلى تسويغات مخدِّرة تسلِّم بالأضرار الجانبية، وتعدّها حالة طبيعية في أية معركة، ولو تجاوزت هذه الأضرار الجانبية جميع الجوانب، واخترقت المركز وقلبه ولبّه. يستوي في ذلك، كما ألمحنا سبقاً، العامي الجاهل والنخبوي المثقف، والغليظ الخشن، والرقيق الناعم، والمنفلت من عقال كل المبادئ، ورجل القيم والمبادئ.

ولكن هيهات! فالإنسان، أولاً وأخيراً، مسؤول عن بروده الذي يتحصن به ليريح ضميره ويسكّن باله، فالبرود، ههنا، هو الموت الأخلاقي بعينه، مسؤول عن استسهاله الشك وإفراطه فيه، لأن الشك في غير محله ضياع وفجيعة، ومسؤول عن تسويغاته المخترعة، لأنها لن تكون سوى محض اختلاق وكذب، ولن يُفلح الكاذب لا في الحال ولا في المآل. {وقفوهم إنهم مسؤولون}.الصافات: 24.