الدستورية السورية والتوافقات الدولية

2019.10.29 | 18:55 دمشق

syria_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

أعلن المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون عن تحديده يوم الأربعاء في 30-10-2019 موعداً لاجتماع اللجنة الدستورية السورية الأول في جنيف. وأكّد بيدرسون للصحافة أن عمل اللجنة سيكون لتنفيذ أحد العناصر الأساسية لقرار مجلس الأمن رقم 2254، وأنّ هذا القرار هو مرجعيّة الحل الشامل في سوريا.

لقد بات مكرراً أن نعيد للأذهان سرديّة المعارضة السورية ورؤيتها للحل وقراءتها للقرارات الأممية ذات الصلة، ومن نافلة القول أيضاً التذكير بموقف النظام السوري الذي لم يؤمن يوماً سوى بالحل العسكري رغم إعلانه مراراً وتكراراً القبول بالحل السياسي. الجديد الذي نجد فيه فائدة مرجوّة هو الحديث عن إمكانيّة التوصّل إلى حلّ حقيقي يلبي مطالب السوريّين بالانتقال السياسي، أو على الأقل أن يكون مَعْبراً أو خطوة أولى في طريق هذا الانتقال.

تتضارب التحليلات التي تحاول استجلاء مستقبل سوريا – ولذلك ما يبرره بالطبع – بين متفائل ومتشائم، وتدور بين مستويات مختلفة تتشارك المعطيات على الأرض وتختلف حسب زاوية النظر إليها. ولا شكّ بأن عمليّة "نبع السلام" قد لعبت دوراً كبيراً في تغيير موازين القوى على الأرض من جهة، وفي مراجعة الحسابات والتوقعات من جهة ثانية.
إحدى وجهات النظر - ونحن من أنصارها- التي تحظى باهتمامٍ يلامس تطلّعات السوريين، تلك التي تقول بأن الحلّ قادم بطريقة مُعتمدة دولياً تمزج بين السياسي والعسكري بما يسمح بإخراج التفاهمات الدولية إلى حيّز الوجود. يرى أصحاب هذا المذهب أنّ الأمور باتت في نهاياتها، وأنّ شكل الحلّ سيمر عبر طريق الانتخابات التشريعية والرئاسية بعد إنجاز اللجنة الدستورية لاستحقاقات كتابة الدستور التوافقي.

يستند هذا الرأي إلى وقائع ميدانية محددة جرت في الشمال السوري مؤخراً، وما كان لها أن تتم بدون عنف بالغ وتصادم بين القوى العسكرية الكبرى الفاعلة في الساحة السورية، لولا وجود تقاسم واضح للنفوذ والأدوار في ترسيم خريطة الحل النهائي. صحيح أنّ دخول الجيش التركي وفصائل الجيش الوطني السوري إلى شمال شرق سوريا قد جوبه بمقاومة شرسة من ميليشيا قسد في بعض المناطق، إلّا أنّ احتواء الموقف بسرعة كبيرة من خلال زيارة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس على رأس وفد رفيع المستوى، ثم من خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنظيره الروسي فلاديمير بوتين والخروج بورقة التفاهمات المعلنة، يدلّ على وجاهة الرأي القائل بنضوج الحلّ.
يَجمعُ أصحاب هذا الرأي أجزاء الصورة كاملة ليشكّلوا منها لوحة نهائية. تبدأ أولى الأجزاء الكبرى من تسليح المعارضة عبر غرفتي (الموك والموم) مما يعني سهولة السيطرة على العمل المسلّح وتوجيهه، ثم عمليّة تسهيل نشوء ودخول وتسرّب التنظيمات الإرهابيّة لتغيير مسار الثورة ولتبرير العنف الهائل المفرط ضدّها، بعد ذلك كانت عمليات التهجير الممنهج لسكّان مناطق محددة لإفراغ مدن كبرى مثل حلب، ولتسهيل عمليّة إحلال غيرهم مكانهم خاصّة ضمن منطقتي حمص ودمشق، ثم أتى دور عمليات تسليم المناطق واحدة تلو الأخرى ضمن تفاهمات باتت الآن واضحة.

عمليات تسليم مناطق الغوطة الشرقية والغربية لم تكن فقط نتيجة انتصارات عسكرية حققتها قوات النظام بمساعدة حلفائها الروس، بل بسبب تفاهمات أعلن عنها بصراحة الرئيس الروسي

يمكننا القول بشيء من اليقين الآن، إنّ عمليات تسليم مناطق الغوطة الشرقية والغربية لم تكن فقط نتيجة انتصارات عسكرية حققتها قوات النظام بمساعدة حلفائها الروس، بل بسبب تفاهمات أعلن عنها بصراحة الرئيس الروسي خلال زيارته إلى الخليج العربي منتصف تشرين الأول الجاري.

كذلك كانت عملية تسليم الجنوب السوري نتيجة ضمانات قدمها الروس للأميركيين بعودة قوات النظام لاستلام الحدود بين سوريا وإسرائيل وحمايتها وفق بنود معاهدة فض الاشتباك الموقعة بين الطرفين عام 1974، وهذا ما جعل الأميركيين يتخلّون عن قوات الجبهة الجنوبية بسهولة بالغة وترك الناس لمواجهة الآلة الحربية الروسية كخيار وحيد إن رفضوا الانصياع وإجراء المصالحات.

إذن تأتي التحرّكات العسكرية في الميدان لتنفيذ الاتفاقيات الجارية في الغرف المغلقة، ومن هذا المنطلق يمكننا قراءة العمليات العسكرية في كلّ من ريفي حماه وإدلب قبل أشهر قليلة وفي الشمال الشرقي قبل أسابيع معدودة فقط. كان الثابت الأكثر وضوحاً في مجمل هذه التحرّكات هو دور السوريين البائس سواءٌ من طرف النظام أم من طرف المعارضة السياسية والمسلّحة، فقد بات واضحاً للعيان أنهم يُنفّذونَ ما يُطلب منهم فقط وأنه ليس لديهم أي دور مؤثر على الإطلاق.

إذن يرى المتفائلون من أصحاب هذا الرأي أنّه يقوم على جوهر بسيط، هو إنجاز الحلّ عبر خطوات معينة ونقاط محددة يجري تنفيذها تباعاً. أوّل هذه النقاط إنجاز اللجنة الدستورية، وثانيها تمكين النظام من إعادة السيطرة على كل الأراضي الخارجة عن سلطته، وثالثها حلّ جميع المليشيات العسكرية السورية أو تسهيل اندماجها ضمن مؤسسة الجيش السوري ومن ثمّ إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية، ورابعها الذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية يتمّ من خلالها إنشاء مؤسسة حكم انتقالية مهمتها الأساسية الحفاظ على ما سبق من خطوات، وخامسها الانتقال إلى الدولة السورية الجديدة، وسادسها إعادة الإعمار، وسابعها إعادة إدماج سوريا بالمنظومة الدولية والنظام الإقليمي. قد يكون هناك بنود متعلّقة بوجود القوات الأجنبية في سوريا خلال هذه المراحل، لكن أغلب الظنّ أنّ هذه المسألة ستترك حتى النهاية لضمان مصالح الأطراف المؤثرة في الساحة السورية.

أمّا المتشائمون فيرون أنّ هذه العملية ستهدف، بنفس الخطوات تقريباً، إلى إعادة شرعنة نظام الأسد. فجميع المؤشرات – بالنسبة لهم – تدّل على أنّ المجتمع الدولي يريد المحافظة على النظام الاستبدادي الإقليمي برمّته في المنطقة بدءاً من أفغانستان في أقصى الشرق وصولاً إلى ليبيا في أقصى الغرب، ونظام الأسد أحد أهمّ ركائز هذا النظام المتوحّش الهمجي ويجب الإبقاء عليه، بل وإن أمكن تعميمه كنموذج على بلدان الجوار، وقد بدأت نتائج هذا التعميم تظهر واضحة في مصر على سبيل المثال.

الحقيقة أنّ التشاؤم له مبرراته خاصّة في الحالة السورية باعتبارها الأكثر تعقيداً من بين حالات دول المنطقة، لكنّ الموضوعيّة تفرض علينا عدم القفز على التغيّرات الجوهرية الحاصلة في بنى المجتمعات التي مرّت بتجارب هائلة أعادت تشكيل الكثير من المفاهيم والقيم عند شعوب المنطقة. صحيح أنّ الوقائع تشير إلى انسحابات أمريكية ملحوظة في بعض مناطق الشرق الأوسط لصالح الإمبريالية الروسية الناشئة، لكنّ إرادة التغيير الشعبي الجارفة، المُعبّر عنها بحماسة متزايدة بدءاً من الجزائر ومروراً بالسودان ومصر وصولاً إلى العراق ولبنان، لن تقف عاجزة عن فرض مصالحها بالنهاية على الأنظمة والقوى الدولية أياً يكن جوهرها وشكلها.

في النهاية نستطيع القول إنّ اللجنة الدستورية قد تكون مدخلاً لبداية الحلّ في سوريا. أمّا عن كونه مرضياً لتطلّعات السورين في بناء دولة المواطنة العصريّة، أو كونه مجرّد إعادة شرعنة وتجميل لنظام الحكم الأسدي، فإنّ ذلك رهن بكثير من المعطيات والظروف المتغيّرة باستمرار وسنرى ذلك في قادم الأيّام، وإنّ غداً لناظره قريب.