الدراما السورية... ضياع الهوية والمسؤولية

2021.06.08 | 06:41 دمشق

12a44fef7ab9e0bf98a353ceb3da507a31.jpg
+A
حجم الخط
-A

استمرت الدراما السورية لفترة تزيد على العقد مهيمنة على السوق الدرامية العربية، وتمكنت في فترة وجيزة من منافسة الدراما المصرية التي تعتبر أهم وأقوى دراما عربية، وتفوقت عليها في كثير من الأحيان مما خلق حساسيات وإشكاليات بين الوسط الدرامي السوري والمصري لا مكان في هذه المادة لمناقشتها.

كان للدراما السورية عبر مسيرتها كثير من الأعمال المهمة ولكن المتقطعة مثل مسلسل حارة القصر وأسعد الوراق والخشخاش والقيد وهجرة القلوب إلى القلوب وغيرها كثير، إضافة إلى إنتاجات كوميدية استمرت فترة طويلة مثل حمام الهنا وصح النوم وعائلة خمس نجوم ومرايا. الانقلاب الحقيقي في الدراما تحقق في منتصف التسعينيات عبر نافذتين، الأولى من خلال دخول القطاع الخاص في العملية الإنتاجية، والثانية مرحلة بدأها المخرج نجدت أنزور الذي غير شكل الدراما السورية تماماً عبر تقديم رؤية بصرية مختلفة من حيث الفكرة والكاميرا وزوايا تموضعها...الخ. أول تلك الأعمال "نهاية رجل شجاع" الذي أطلق الدراما السورية إلى رحاب السوق العربية، ومن ثم تتالت الأعمال مثل الجوارح وأخوة التراب.. في المقابل ساعد على انتشار الدراما السورية أنها بدأت مرحلتها الإبداعية تزامناً مع انتشار القنوات الفضائية وازدياد استثمار دول الخليج في المجال الدرامي والفني.

إن كان نجاح الدراما السورية نتيجة لاستخدام أساليب إخراجية وبصرية جديدة مكنت الممثل السوري من تسويق قدراته الإبداعية وترسيخ صورته كفنان متمكن تصعب منافسته، فإن تمثل الدراما السورية المشكلات الاجتماعية المعاصرة وتبنيها الرواية التاريخية بجدية ومصداقية بعيداً عن المادة الاستعراضية والمبهرجة مهدت لها اكتساح السوق العربية، ففي عام 2010 كان حجم الإنتاج التلفزيوني ما يزيد على 40 مسلسلاً سورياً لم تخلُ قناة ناطقة بالعربية باستثناء القنوات المصرية من عرض أحدها.

تشرذم الكتلة الإبداعية من ممثلين ومخرجين وكتاب وفنيين بسبب المواقف تجاه نظام مجرم الحرب الأسد

تراجعت الدراما السورية بعد انطلاق الثورة عام 2011، وبدا ذلك واضحاً من الإنتاج المتراجع في العام نفسه الذي لم يتجاوز الـ 25 مسلسلاً، وهناك عدة أسباب عزا إليها العاملون في الحقل الدرامي هذا التراجع، أولها كان تشرذم الكتلة الإبداعية من ممثلين ومخرجين وكتاب وفنيين بسبب المواقف تجاه نظام مجرم الحرب الأسد. اصطف مجموعة من الفنانين مع الثورة، في حين التزمت مجموعة أخرى الوقوف مع النظام ضد الشعب، وقررت مجموعة ثالثة التزام الحياد حفاظاً على مصالحها ولتحمي نفسها.

السبب الثاني جاء نتيجة الموقف الذي اتخذته معظم الدول العربية تجاه نظام الأسد، والتي بدأت تحاربه في مجالات شتى، ولأن الدراما السورية تبقي في إنتاجها مجالاً لنقاش الشأن العام المصادَر أصلاً من النظام، فجاءت الحرب عليها في خضم رفض الموقف الرسمي والشعبي العربي حينها لانتهاكات الأسد، ورفضت القنوات العربية عرض الدراما السورية، وخاصة تلك القنوات التي تتلقى تمويلا او استثماراً خليجيا والتي تملك الحصة الأكبر من السوق.

في 2011 ينظر الشعب إلى العاملين في الشأن الدرامي، وخاصة الممثلين والمخرجين والكتاب، وينتظرون مواقف منهم. كثير من الفنانين لم يعوا المسؤولية الملقاة عليهم في تلك المرحلة. في بلد مثل سوريا لا يوجد شخصيات عامة في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، حيث إن معظم أطياف الشعب لا تعرف أسماء الوزراء ولا حتى عدد الوزارات، وبالتالي لم يكن هناك شخصيات عامة أمام السوريين سوى الفنانين، بمعنى أن الأمل في إيجاد رموز للثورة يمكن أن يتم اختيارها من مجموعة الشخصيات العامة انحصر في المجال الدرامي. بعد الثورة بأيام بدأ السوريون يبحثون في الإنترنت ويسألون بعضهم عن موقف هذا الفنان أو ذاك، ظهور فنانين يهتفون في المظاهرات مثل فارس الحلو وجلال الطويل ومحمد آل رشي ألهب حماسة المتظاهرين في كل سوريا. بيان الحليب الشهير وصداه منح الثائرين والمحاصرين يومها في درعا دافعاً أكبر للاستمرار أصبح أيضاً مكسيم خليل أيقونة للثورة بعد إعلانه عن إهداء جائزة فاز بها للشهداء والمعتقلين.

على الطرف الآخر لم تخرج قائمة الفنانين المؤيدين للنظام عن التوقعات، باستثناء بعض الشخصيات التي أدت مواقفهم لصدمة بين السوريين من أمثال بسام كوسا وعباس النوري ولاحقا سلوم حداد. تبدأ الثورة في 2011 ويبدأ معها القمع واتخاذ القرار بمواجهة دموية ليصبح البوط العسكري رمزاً لكثير من هؤلاء متخلين عن أي التزام فني أو أخلاقي أو إنساني، وملتزمين البوط العسكري مع ممارسة التشبيح على زملائهم الذين تبنوا موقف الثورة ليتم تتويج ذلك بالتشبيح التنظيمي عبر فصل كل الذين اتخذوا موقفاً ضد الأسد أو لم يشبحوا لحسابه من نقابة الفنانين السوريين. في النقابة يتصارع الشبيحة بين بعضهم على رئاستها ولكنهم في الوقت نفسه يتصارعون ضمن إطار عام يرتضون فيه التشبيح، تخرج النتيجة لصالح أحدهم ويرضخ الجميع دون أن يتناولوا النظام السياسي الذي أدى لذلك الشكل من العلاقة حتى بين بعضهم بأي كلمة سوء، فالأسد والقيادة بنظرهم مثل إله ما ينتج عن تصرفاته ناجم عن حكمة ما.

الفريق الثالث تكوّن من هؤلاء الذين لم يتبنوا موقفاً ضد النظام أو معه بحجة عدم تدخلهم في السياسة. يتجاهل هؤلاء عين الحقيقة التي تقول بأنه لا يوجد في سوريا سياسية من الأصل. تتعامى تلك المجموعة عن القتل والدم المستمر وتنظر إليه نظرة براغماتية تحاول أن تتخلى فيه عن دورها بحجة السياسة. يظن هؤلاء أو يحاولون أن يظنوا أنهم لم يسقطوا أخلاقياً. يرون في دعوات السوريين لهم لأن يتخذوا موقفاً نوعاً من الضغط لالتزام موقف هنا أو هناك. يرفضون أن يعترفوا بالظلم الواقع على أطفال لا يمكن لأجسادهم أن تتحمله، وذلك لتبقى سوقهم رائجة.

بعد عام 2011 تراجعت الدراما السورية ليس بسبب العاملين الذين تطرقت لهما المادة أعلاه، وإنما لتخليهما عن الدور الاجتماعي الذي تبنته وحدد هويتها وأوصلها للصف الأول بين مثيلاتها العربية. قبل الثورة كان سقف المجتمع في طرح مشكلاته في الشأن العام محدوداً، فجاءت الدراما بسقفها المحدود حينها تتناسب مع طرح المجتمع، بل وتجرأت على طرح موضوعات أكثر حرية، وخاصة من ناحية الثقافة الاجتماعية ليثق بها السوريون، ولتشكل ملاطاً مهماً للهوية الوطنية على اعتبارها تحاكي هموم المجتمع وتقدم صناعة إبداعية وناجحة تبعث الفخر في نفوسهم. بعد 2011 انقسمت الدراما إلى منحيين: الأول حاول أن يقدم رواية النظام للثورة، وناقش هموما اجتماعية ولكن بصورة عكسية تماماً أحل فيها الضحية محل الجلاد. تميزت هذه الدراما بتراجع فني كبير وضعف في الأداء الذي بات يشاكله الابتذال وتصنع وتكلف دعمته حملات البوتكس والفلتر التي جعلت كل شيء بلاستيكياً. المنحى الثاني اختار أن يروي رواية ثورية تتمرد على التوحش والخوف وتقدم صورة أكثر قرباً للمجتمع، فراحت تقدم محتوى درامياً جريئاً بالمقارنة مع غيرها، ويركز على الثنائيات في المجتمع، بمعنى معارض ومؤيد، وهواجس ومخاوف كل منهما. معظم الذين كتبوا أو أخرجوا أو عملوا في تلك الأعمال كانوا إما معارضين أو لم يعلنوا عن مواقفهم. على ذلك عجزت الدراما أن تكون كما كانت عليه، وبالتالي أن تصل بأسباب نجاحها لما كانت عليه سابقاً، فقد نقصها المحاكاة الصريحة والواضحة للواقع. في 2011 و2012 تبدأ الأعمال التي تحاول أن توازن العرض بإنتاج رواية تحاكي الواقع المعاش مثل الولادة من الخاصرة وقلم حمرة وسنعود بعد قليل وحلاوة وروح وغداً نلتقي وغيرها، ولكنها لم تستطع أن تكون سوى مرآة مكسورة لواقع أدى كسرها لنقصه. قد يعود ذلك بداية لأن معظم الأعمال الدرامية ركزت على معاناة الناس في مناطق سيطرة النظام، ولهذا أسباب موضوعية تتعلق بأن معظم الكتاب والمخرجين من الطبقة الوسطى وحياتهم كانت دائماً في الأحياء التي لم تخرج عن سيطرة النظام، وبالتالي من السهل التعاطي مع المادة الدرامية لأنهم يفهمون بيئتها جيداً، ولكن هناك سبب يتعلق بالإنتاج، وخاصة في السنوات الأخيرة. يبدو أن هناك رغبة في أن تبقى الثورة السورية أو القضية السورية حبيسة الشاشات الإخبارية كما صرح جمال سليمان أثناء حديثه عن عدم تمكنه من تمويل وإنتاج مشروعه الدرامي "التغريبة السورية"، كما يبدو أن هناك قراراً بالتغاضي عن معاناة الناس في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، فقد رفض غسان صليبي إخراج مسلسل غوما بعد أن قام المنتج باشتراط نقل الأحداث التي تحدث في سوريا من بيئة منطقة محاصرة، لبيئة في مناطق سيطرة النظام.

اللافت في الأمر أنه خلال عشر سنوات من الإنتاج الدرامي لم يتجرأ عمل واحد على ذكر اسم بشار الأسد صراحة. حتى تلك الأعمال المحسوبة على الثورة. خلال تلك الفترة هناك إنتاجات درامية أوروبية وأمريكية باتت تتناول الأسد مادة دسمة للرواية والإنتاج، في حين بقي المشروع الدرامي العربي والسوري خاصة متجاهلاً للأسد رافضاً لذكره مجرماً مسبباً لكل الظلم والدمار والقتل، بل حتى الشخصيات الأخرى في القيادة السورية يشار إليها بشكل ضبابي غير مفهوم مثل ذلك المسؤول الكبير الذي يتم التلميح لأنه مسؤول أمني دون ذكر أي تفصيل صغير في الشخصية التي قام بها جمال سليمان في مسلسل العراب.

يرى العاملون في الحقل الدرامي من الذين التزموا الثورة أنهم يواجهون مشكلتين في العمل على إنتاج مادة درامية تحاكي ما يحصل تماماً، وهما الإنتاج والتسويق، فإذا تحصلوا على الإنتاج فلن يتحصلوا على قنوات العرض. يبدي الفنانون اليوم استعداداً كبيراً لأن يقدموا كل جهودهم وإمكانياتهم لدعم أي عمل درامي من شأنه التعبير عن الثورة، ولكنهم في الوقت نفسه يعانون المشكلة نفسها لدى كل السوريين. الواضح أنهم غير قادرين على أن يشكلوا بمجموعهم مشروعاً درامياً وطنياً.

اكتفى السوريون بالفنانين بأنهم سوريون، وأنهم لكل السوريين، مما سهل لأن يكونوا رموزاً أجمع عليها الطيف الأكبر من الثوار رغم كل اختلافاتهم

من الجدير بالذكر أيضاً أنه في فترة انطلاق الثورة دارت الأسئلة كثيرا عند انشقاق شخصيات من المؤسسات العسكرية والمدنية عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الطائفية، لكن مثل تلك الأسئلة لم تطرح يوما عند إعلان فنان ما موقفه، اكتفى السوريون بالفنانين بأنهم سوريون، وأنهم لكل السوريين، مما سهل لأن يكونوا رموزاً أجمع عليها الطيف الأكبر من الثوار رغم كل اختلافاتهم، والراحلة مي سكاف إحدى الأمثلة.

لعبت الدراما السورية دوراً كبيراً في ترسيخ الهوية السورية، وما زالت قادرة على لعب هذا الدور. ويقف كثير من الفنانين في صلب الشعور المركزي بالهوية لدى السوريين على اعتبارهم باتوا رموزاً. إن النهوض بالدراما مهمة تتطلب من العاملين بشأنها أولاً جهودا أكثر من تلك التي يبذلونها، ومن المجتمع الثوري تضامناً واستعداداً للدعم والبذل.