icon
التغطية الحية

الدراما التلفزيونية.. الوجه الآخر لخطابات بشار الأسد العنف والقوة الناعمة

2022.08.18 | 06:27 دمشق

دراما
تلفزيون سوريا ـ هشام الزعوقي
+A
حجم الخط
-A

عند اجتياح الاحتلال النازي الألماني لمدينة براغ في الحرب العالمية الثانية كان أول شيء فعلته قوات هتلر هو إغلاق مدارس الفن و على رأسها مدرسة الهندسة المعمارية في المدينة. لم يكترث كثيراً للمدرسة الحربية إلاّ فيما بعد، لقد كانت دوماً أماكن تجمّع المبدعين والمبتكرين من أهم الأخطار التي تهدد الأنظمة الشمولية الاستبدادية، وأمثلة معاناة الكثير من الأدباء والفنانين مازالت معروفة في أثناء سيطرة أنظمة حكم  كتلة الدول الشرقية "الشيوعية سابقاَ"، والصين وإيران وغيرها إلى يومنا هذا. إن علاقة الثقافة والفن بالسياسة هي علاقة قديمة ومهمة جداً. أحيانا تكون متداخلة بطريقة معقدة وأحيانا واضحة. نعم، من الصعب فصل الفن عن السياسة. أو كما يقول المسرحي الألماني بريخت "الفن ليس مرآة للحقيقة، بل هو مطرقة يمكن بها تشكيل الحقيقة".

من هنا كان تركيز نظام الأسد ومراقبته الشديدة لكل منتجات الثقافة والفن في سوريا بالإضافة إلى سيطرته المطلقة على كافة جوانب الحياة الثقافية والفنية في البلاد. لا شيء  أبداً يمر من دون موافقة أجهزة مخابرات النظام  ولجانه "الفكرية " الحارسة المخلصة له.

منذ بدايات انقلابه سنة 1970 اتبع نظام الأسد الأب في سياسته الإعلامية والدعائية استراتيجية تقوم على أساس ترويج الأخبار والمعلومات الكاذبة بغض النظر عن واقعيتها. لم تكن الحقيقة هدف نظام الأسد ولا في أي يوم من الأيام. هدفه دائما كان التركيز والترويج لحكايته بغض النظر عن صحتها أم لا، وبهذه الطريقة التي من خلالها كان يستطيع خلق البلبلة والفوضى والارتباك لدى الشعب  ولطالما أنه كان من الصعب معرفة الحقيقة لغياب مصادرها، كان الشعب السوري يشعر وكأنه يعيش في حالة خواء و ضباب معلوماتي محكم. و بعد وفاته يأتي ليحكم  سوريا لا رجل سياسة، وإنما وريثه، الأسد الابن ليتابع نفس السياسة  القائمة على اعتبار المجتمع السوري والمواطنين هم مجرد رعايا لحكمه و"حكمته".

في الفن.. الحلول الوسطى كارثة

في الوقت الذي كانت فيه مدافع وراجمات صواريخ قوات بشار الأسد تفتك بالشعب السوري المنتفض، تدك مدنه وتحرق قراه التي خرجت عن طاعة نظام مافيا الدولة السورية، كانت ورشات صناعة الدراما السورية من كتّاب و ممثلين ومخرجين ومنتجين تعمل بلا كلل لإنتاج مسلسلات تلفزيونية وأفلام سينمائية هدفها الأساسي تدعيم وتبنّي سردية النظام والترويج لحكايته "المزورة" عن طبيعة الصراع في سوريا وهذا لم يكن مصادفة.

لقد أدركت الحلقة المقرّبة من رأس النظام والجهات الداعمة له مبكراً أن التهديد العسكري واستخدام العنف أو "القوة الصلبة" من رصاص ومدافع وبراميل وقصف طيران وإعدامات ومجازر جماعية واعتقالات رهيبة شاملة في سجون كارثية ومحارق عنيفة أدركت أنها غير قادرة على إرغام وقهر انتفاضة الشعب السوري لذلك لا بد له من زج كامل المجتمع في حلبة صراعه واشتغل بكثافة على مفهوم "القوة الناعمة" أو "الحرب الناعمة" فاستنفر كافة أجهزته و"مؤسساته المدنية" من منابر ثقافية وإعلامية وفنية بل و دينية أيضا، و لجأ إلى طريقة دفع الرشاوي وتقديم الأموال والتسهيلات لشراء التأييد والموالاة وعمل على جذب بعض الشخصيات الخارجية العربية والدولية، وأصبح لديه "جيش إلكتروني" يحارب وينشئ مئات الحسابات الوهمية ويُغذّيها وفق أجندات في مقدمتها التأثير والسيطرة على عقول الناس والتعمية على الحقيقة ببث كمية هائلة من الأكاذيب والأضاليل الباطلة.

وإذا كانت الطرق التقليدية باستخدام البروباغندا (أساليب الدعاية) أصبحت مكشوفة وثقيلة وساذجة من بث أغان "وطنية" وفيديوهات ينتجها الإعلام الحربي و برامج "حوارية" سياسية وفيديوهات ترفيهية توحي بأن "سوريا بخير" فإن خطورة "القوة الناعمة" على النقيض تعمل بطريقة ماكرة وغير مباشرة و تدريجية، حيث إنها تتسلل إلى كل بيت تقريبا هدفها التأثير على كافة الفئات العمرية لتغير في اتجاهات وميول الشباب وصناعة الرأي العام وبالتالي إلى السطوة والهيمنة على العقول ودورها في تبديل وجهات النظر حول أي قضية.

في الواقع إن ما تقوم به الدراما السورية من مسلسلات و أفلام  من دور في المجتمع هو أن تكون بمثابة سلاح مؤثر يحقق ويدعم أهداف وخطة وسردية النظام و بطريقة جذابة.

أول طرق تقييم  ذكاء الحاكم هي  أن تنظر إلى من يحيطون به

 "ميكيافيلي"                                                                                                

إن من يتمعن قليلاً في خطابات الأسد الابن يدرك فوراً التفكك والسفسطة الواردة في كلماته ولانعرف إن كان هو من يكتبها أو "مستشاروه" في القصر الجمهوري.

وكذلك في مقابلاته الصحفية مازال الإنكار والانفصال عن الواقع والكذب سمة أساسية في هذه اللقاءات، لكنه رغم ذلك استطاع ترديد وترسيخ مصطلحات مثل:  "المسلحون، الإرهابيون، الجراثيم، الحرب الكونية، المقاومة، والفساد المستشري ...إلخ) لكن اللافت للانتباه أنه في الوقت الذي جاءت فيه خطابات الأسد مملة استطاعت الدراما السورية ومسلسلاتها  أن تعيد إنتاج  هذه الخطابات بطريقة أكثر جاذبية وتماسك مع وجود شيء من الترفيه والتسلية بالرغم من أنها كلها تقريبا رسّخت نفس المفردات عن واقع الصراع في سوريا. في كل مسلسل هناك  ( المسلحين، الإرهابيين، الجراثيم، الخونة، الهاربين، الجيش الباسل.. إلخ)، أما الفساد، فهو شر لا بد منه. وهو نغمة في كل المسلسلات

إن هناك شيئا اسمه الدولة وشيئا اسمه الحكومة. وأحياناً في بعض المسلسلات هناك "القيادة" النزيهة، المخلصة للشعب والتي لا تعرف ما تقوم به "الحكومة ". إن هذا الفصل التعسفي ما هو إلا شكل من أشكال استغباء المجتمع. ويأتي هنا دور الممثلين وكتاب سيناريو مخرجين ومنتجين ومثقفين نصف موهوبين ليقودوا نتاجات الفن السوري من أفلام ودراما لخدمة الأسد ولتزييف الواقع وليكونوا شاهد زور بامتياز. 

الشعور بالإحباط العام سيضع المسلسل التلفزيوني الأكثر رداءة في أعلى قائمة الجمهور

في ظل  سيطرة الفقر والجوع وعدم توفر الأمان وغياب الحد الأدنى من شروط  الحياة الإنسانية والكرامة غير المتوفرة لعموم المواطنين، استطاعت شريحة غير قليلة من الفاسدين وأصحاب الثروات ومجموعة من صناع الفن والدراما ممن تربطهم علاقات ولاء وخضوع لأجهزة الأسد استطاعوا العيش في فسحة مريحة نسبياّ ومنهم القائمون على صناعة المسلسلين "كسر عظم" و "مع وقف التنفيذ" هذان المسلسلان اللذان تصدرا قائمة المشاهدات في رمضان 2022 وأثارا ضجة كبيرة من حيث الموضوعات التي تناولاها، حيث تمكنا من المتاجرة الحرفية بمصائب وأوجاع السوريين تحت رسالة "القيادة ممتازة لكن المسؤولين هم المرتشون". مما أدى إلى الدعوة لورشة لمدة 3 أيام  بتاريخ 31 تموز 2022 تحت رعاية وزارة الإعلام وبعنوان "الدراما السورية.. صناعة فكر ومسؤولية مجتمعية". 

حيث كان المدير العام للتلفزيون الحكومي الرسمي أكثر المشاركين وضوحاً واختصاراً عندما صرح عن مطلبه عن كيفية دور الدراما السورية : "أن تكون سلاح سوريا الناعم في وجه الحرب والغزو الثقافي الذي تتعرض له وترسيخ البنى الأساسية المقاومة في المجتمع السوري" .

حتى تاريخ اليوم، رحلة طويلة شاقة قطعها الشعب السوري ما بين انقلاب الأسد الأب وتوريث الأسد الابن. السوريون كلهم تقريباَ يعرفون المعادلة البسيطة الواضحة والتي تحكم البلد. هنا في سوريا  كل شيء مسموح عدا  ثلاث:

-ممنوع الحديث عن كيفية سرقة الدولة وتوارث الحكم في عائلة الأسد. ولماذا تتمتع هذه العائلة وأتباعها بكافة صلاحيات استغلال البلد والسيطرة عليه.

-ممنوع الحديث عن سيطرة المخابرات على الناس  واستباحتها للشعب، وتكميم الأفواه، ومنع كل الحريات.

-ممنوع الحديث عن موضوع الجولان وارتهان نظام الأسد لإسرائيل.

إلى أي مدى استطاع بشار الأسد في خطاباته والدراما السورية في نتاجاتها..  استطاعوا ولو حتى بالإيحاء، بالإشارة الى هذه المفاصل في الحياة السورية؟.