الدبُّ الروسي وصراعُ الهيبة!

2018.06.06 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لمْ تتوقفْ الأزمةُ السوريّةُ عن مفاجئةِ الجميعِ بما فيهم مراكزُ الدراساتِ والأبحاثِ المتخصّصة، بل وأحياناً بعضُ الفاعلينَ الأساسيينَ من إقليميينَ ودوليين، وخصوصاً بعد إعلان النظامِ السوري عن الاستعانةِ بما سمّاها القوّات الرديفة والصديقة، في إشارةٍ للتدخل الروسي والميلشياتِ الطائفيةِ وعلى رأسها منظّمةُ حزب الله الإرهابيّة.

لمْ يكنْ المشهدُ السوريُّ في أيّ يومٍ منَ الأيامْ واضحاً مثلَ لحظةِ تهديدِ الرئيسِ الأمريكي الأسبقْ باراك أوباما نظامَ الأسد بردٍّ عسكريٍ قويّ إثرَ استخدام الأخير غازَ السارين ضدّ المدنيين العٌزّل في الغوطة الشرقية ليلة 21 آب عام 2013، مع ذلك ونتيجةً لظروفٍ لم نستطعْ الإحاطةَ بمعظمِها - وقد لا نتمكّن من ذلك قبل رفعِ السريّةِ عن هذا الملفِ في دوائرِ استخباراتِ الدولِ الفاعلة – توقّفتْ تلكَ الضربةُ بشكلٍ صادمٍ للجميعِ بما فيهم أقربُ حلفاءِ واشنطن.

حسبَ الكثيرِ من الصحفِ و منها النيويورك تايمز وأتلانتيك أنّه تمّ التخلّي عن فكرةِ الضربةِ العسكريةِ والعملِ على تسليح "الثوار" ، فقد اصطدمَ ذلك بالمشكلةِ القانونيةِ " أنّه يجبْ تزويدُ الثوّار من خلال لجنةِ التسليحِ في الكونغرس و من خلال برنامجٍ تقررهُ وكالةُ الاستخباراتْ، كان العائقُ الوحيد أو نقطة الخلاف لمن سيذهبُ الدعمُ و ما هي حدوده "، فمن المعروفِ أنّ من أهمِّ ضوابطِ بيعِ أو التزويدُ بالسلاحِ الأمريكي ألّا يقعَ في أيدي تنظيماتٍ مصنّفةٍ لديها كتنظيماتٍ إرهابية، و بالتالي عادتْ المشكلةُ من جديدْ. لكنّ بعضَ أعضاءِ الكونغرس دفعوا باتجاه تسليح فصائلَ مُنتقاةٍ بعنايةٍ، فتمّ تشكيلُ مجلسٍ عسكرّي بقيادةِ الجنرال سليم إدريس الذي لم يكن بمقدورهِ إدارةُ العمليةِ لفترةٍ طويلة، فاتجهت واشنطن لتسليحِ الأكرادْ، وبقي الخطُّ الأحمر عدمَ تزويدهم بصواريخَ مضادةٍ للطائراتْ خوفاً من استخدامها لاحقاً ضدّ دولٍ حليفةٍ أو صديقةٍ للولاياتِ المتحدة وبالتالي تقع في نفسِ إشكاليةِ العراق ومن قبلها أفغانستان.

منذُ تلكَ اللحظةِ بدأتْ تتراجعُ عمليّاتُ دعمِ الفصائل العسكرية المسلّحةِ التي تحاربُ نظامَ بشّار الأسد، بل وأكثرُ من ذلك تمّ وضعُ خطوطٍ حمراءَ لهذه الفصائل لا يُمكنها تجاوزُها.

لقد تركَ المجتمعُ الدولي نظامَ الأسد يقتلَ السوريينَ العُزّل منذُ أن كانت الثورةُ سلميّةً دونَ أن يُقدّمَ لهم سوى الوعودِ الكاذبةِ بالمساعدةِ والدعم

يعودُ السببُ في ذلك إلى الرغبةِ بتمكينِ الضامنِ الروسي من تنفيذِ وعدهِ بتسليمِ المخزونِ الكيماوي للنظامِ خلال المدّةِ المحدّدةِ بموجبِ القرارِ الصادرِ عن مجلسِ الأمن رقم 2118 بتاريخ 28-9-2013. فعلى سبيلِ المثال كان يجبْ تأمينُ الخطِّ الواصلِ بين منطقةِ السفيرةِ في حلبْ حيثُ أحدُ أكبرِ مصانعِ ومخازنِ السلاحِ الكيماوي وبين ميناءِ طرطوس، وهذا استدعى بالضرورةِ تدخّل الإدارةِ الأمريكيةِ للضغطِ على حلفائِها الإقليميينَ لمنعِ الثوّار من الاقترابِ من هذه الخطوط، وإعطاءِ الضوءِ الأخضر للنظامِ للمحافظةِ عليها حتى ولو استخدمَ أقصى درجاتِ العنف كما فعلَ في حملتهِ التدميريّة على أحياءِ مدينةِ حلبْ الخارجةِ عن سيطرتهِ في تلكَ الفترةِ وبعدها.

لقد تركَ المجتمعُ الدولي نظامَ الأسد يقتلَ السوريينَ العُزّل منذُ أن كانت الثورةُ سلميّةً دونَ أن يُقدّمَ لهم سوى الوعودِ الكاذبةِ بالمساعدةِ والدعم، ثم وقفَ يتفرّجُ على ميليشياتِ حزب الله المصنّفِ إرهابياً من قبل الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ منذ العام 1995 وهي تدخلُ إلى الأراضي السوريّةِ براياتها الصُفرِ الفاقعةِ، ثم تركَ لإيران حريّةَ استخدامِ الأجواءِ العراقيةِ للوصولِ إلى مطاراتِ النظامِ عبرَ جسرٍ جوّيٍ من الميليشياتِ والعتادِ والذخيرة.

كما غضّتْ أجهزةُ المخابراتِ الأمريكيّة الطرْفَ عن إطلاقِ نظامِ نوري المالكي سراحَ عُتاةِ متطرّفي القاعدةِ أتباعَ الزرقاوي وبن لادن من سجونِ أبوغريب والتاجي في العراق وهي التي كانت تُوصفُ بأنها قلاعٌ لا يمكنُ اقتحامُها، ومن ثمَّ سهّلَ لهم عمليّةَ الاستيلاءِ على مدينةِ الموصل وغيرها من المدنِ المُنتفضةِ بوجهِ الحُكمِ الطائفيّ هناك. أتى بعدَ ذلكَ الإعلان ُعن قيامِ الدولةِ الإسلاميةِ التي اصطُلحَ على تسميتهاِ  ب داعش في العام 2014 بعد فترةٍ قصيرةٍ جدّاً من فرارِ أولئكِ المساجين، ليبدأ فصلٌ جديدٌ في حكايةِ الثورةِ السوريةِ هو فصلُ محاربةِ الإرهاب و الذي كان بمثابةِ حصانِ طروادة بالنسبةِ إلى روسيا لتبرّرَ تدخّلها، و ليعلنَ الغربُ تشكيلَ التحالفِ الدولي لمحاربةِ تنظيمِ الدولةِ والذي باتَ الخطرَ الحقيقي بالنسبةِ لهم، رغم أنّ النظام السوري وحسب تقاريرَ الكثيرِ منَ المنظماتِ الحقوقيةِ و بحسبِ جريدة  "ِالغارديان" قد قتلَ من السوريين أكثرَ بسبعِ مرّاتٍ في العام 2015 مما فعلَ تنظيمُ داعش الإرهابي  .

وعندما كان الثوّارُ كما وصفتهُم الكثيرُ من الدولِ على أبوابِ إسقاطِ النظام، وكان الحديثُ وقتَها عن توقيتِ معركةِ دمشق حيثُ خسرَ نظامُ الأسد مساحاتٍ واسعةً قدّرتها بعضُ المراكزِ ب 60-70-% من مساحةِ سوريا، لم تكن داعش تحاربُ إلا فصائلَ الجيشِ السوري الحرْ في أيّ مكانٍ وجدتْ فيه، ورغمَ كلِّ ما سبقَ كان الثوّارُ في تلك الفترةِ أقربَ لإسقاطِ النظامِ عسكريّاً، ولم يسعفه ُتدخّلُ إيرانَ بميليشياتها الطائفيةِ التي استدعتها من أربعة أصقاعِ الأرضْ.

باتتْ قلاعُ النظامِ في دمشقَ محاصرةٌ ومهدّدةٌ بالسقوط، وباتَ حلمُ السوريّينَ بالتخلّصِ من هذا الغولِ قريبَ المنالِ والتحقّقْ،

القوّاتِ الجوّية الروسيّة لم تقترُبْ صوبَ داعش أبداً بل كانت الأخيرةُ تصولُ وتجولُ تحتَ مرأى طيّاريها واستخباراتها

إلى أنْ جاءّ التدخّلُ الروسيُّ في لحظةٍ فارقةٍ بتاريخ 30-9-2015 ليقلبَ جميعَ الموازينِ ويغيّرَ المعادلةَ العسكريّةَ وبالتالي السياسيّةَ في سوريا بشكلٍ لم يكنْ يخطرُ على بالِ أحد.

لكنَّ القوّاتِ الجوّية الروسيّة لم تقترُبْ صوبَ داعش أبداً بل كانت الأخيرةُ تصولُ وتجولُ تحتَ مرأى طيّاريها واستخباراتها، وبدلاً من ذلك صبّت جامَ غضبها على فصائلِ الجيشِ السوري الحر.

 من الواضح أن هذا التدخل ما كان ليتمّ لولا موافقة أميركا ورضاها، ويبدو أن الأدوار كانت موزّعة بطريقة تناسب مصالح الجميع، فلم يكن من المقبول أبداً أن يأتي الإسلاميّون إلى الحكم مهما كان الثمن باهظاً.

لمْ يستطعْ العالمُ تحمّلَ فكرةَ نجاحِ الإخوانِ المسلمينَ وبالتالي الإسلام السياسي في انتخاباتِ مصر بشكلٍ ديمقراطي، فهل سيستطيعُ تحمّلَ وصولِهم إلى السُلطةِ في سوريا بقوّةِ السلاحِ وضمنَ أجواءِ قبولٍ شعبيٍ لا بأسَ به نسبيّاً؟

هل كانت إسرائيلُ لتقبلَ بسقوطِ نظامٍ حافظَ على حدودِها وأجوائِها هادئةً منذُ معاهدةِ فضِّ الاشتباكِ في العام 1974 إلى درجةٍ تعجزُ هي ذاتُها عن القيامِ بها؟

وفقَ هذه المعطياتْ يمكنُنا قراءُة القبولِ الدوليّ والإقليميّ لهذا التدخّلِ الروسيّ الكبيرِ وفهمُ سياقِهِ الزمني.

وهنا يمكنُنا أن نطرحَ سؤالاً من أهمِّ الأسئلةِ في كلِّ المُعضلةِ التي صنّفتها الأممُ المتحدةُ على أنها أكبرُ أزمةٍ إنسانيةٍ تمرُّ بها بعدَ الحربِ العالميةِ الثانية: هل تتوفّر مقوماتُ انتصارِ بوتين في هذا التدخلْ؟

وهل فعلاً ليسَ لأميركا اهتمامٌ بهذه المنطقةِ من العالمْ كما كانت تصريحاتُ الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما تقولْ؟

هناكَ من يرى أنَّ بوتين يريدُ من تدخّلهِ في سوريا أن يصنعَ فارقاً قويّاً يُحاججُ به الغربَ الذي فشلَ في ضبطِ الأوضاعِ في أفغانستان بعد احتلالِها وفي العراقِ بعد تدميرهِ وفي ليبيا بعد إسقاطِ القذافي.

حسبَ وجهةِ النظرِ هذه لا يبحثُ بوتين عن قواعدَ بحريّةٍ في المتوسّط ولا عن مصادرَ الطّاقةِ المحتملةِ في الشواطئِ السوريّةِ ولا عن قطْعِ طُرقِ إمدادِ أوروبا بالغازِ القطري، بقدرِ ما يبحثُ عن إعادةِ هيبةِ الدبِّ الروسي كلاعبٍ دوليٍ من العيارِ الثقيلِ جدّاً.

لذلكَ سيكونُ من المنطقيّ - لهذا البطلِ المنقذِ في نظرِ الغالبيّةِ العُظمى من الروس - أن يسعى لفرضِ نموذجٍ جديدٍ من الأمنِ والاستقرارِ في سوريا ما بعد القضاءِ على آخرِ أشكالِ العملِ المسلّحِ ضدَ نظامِ الأسد.

سيحاولُ أن يفرضَ على النظامِ بعض التغييراتِ في طريقةِ تعامُلها مع السوريينَ المقهورينَ ممنْ انتصرَ عليهم بمساعدته، وسيحاولُ أن يلعبَ دور المخلّصِ لأوروبا من أزمةِ اللاجئينَ الذينَ أغرقهُم بها بشّار الأسد وفتح بعضَ أبوابها سلطانُ المسلمين، وسيحاولُ أن يفرضَ على الأوروبيينَ القبولَ به على علّاتهِ كشريكٍ اقتصاديٍّ يحظى بتفضيلاتٍ تتناسبُ وقوّتهِ العسكريةِ والسياسيةِ وليس استناداً لميزانِ قوّتهِ الاقتصاديةِ التي لا تزيدُ عن حجمِ اقتصادِ إيطاليا.

قد يكونُ هذا السيناريو الأخير أقربَ إلى التحّققِ في ظلِّ الأخبارِ الواردةِ عن اجتماعِ اللاعبينَ الكبارِ في السويد بما يُشبهُ اجتماعاً غير رسميٍّ لمجلس الأمن،

وهل تتركُ له إيران التي تحملُ مشروعاً إيديولوجياً قوميّاً الساحةَ بهذه البساطةِ بعدَ كلّ ما قدّمتهُ للحفاظِ على مصالحِها في سوريا؟

أو ما اصطُلحً على تسميته خليّةُ باكاكرا وقد يكون هؤلاءِ قد أدركوا حجم التعقيداتِ التي يمكنُ للدبِ الروسيِّ أن يضعها في طريقهم إن لم يحصُلْ على الثمنِ المناسبْ كذلك تأتي زيارة المستشارة ميركل إلى سوتشي في العشرين من شهر أيار عام 2018في نفس السياق، كما يمكنُ أن يكونَ هذا الدبُّ قد فهمَ أخيراً أنّ الثمنّ باتّ جاهزاً للدفعِ وأنّه لن يتحصّلَ على أكثرَ من ذلكَ من البازارِ السوريّ.

لكنْ هل يستطيعُ بوتين القيامَ بذلك؟ وهل تتركُ له إيران التي تحملُ مشروعاً إيديولوجياً قوميّاً الساحةَ بهذه البساطةِ بعدَ كلّ ما قدّمتهُ للحفاظِ على مصالحِها في سوريا؟ وهل يأتي تصريحه قبل أسابيع بحضور بشار الأسد بوجوب خروج جميع القوات الأجنبية من سوريا في نفس الإطار المحكي عنه؟ وهل تأتي الضربات الإسرائيلية المتكررة على القوّات الإيرانية لتصبّ في مصلحته من حيث إضعاف إيران وإبرازه كلاعب شبه منفرد في الساحة السورية؟

هل تسمحُ له بنيةُ النظامِ الأسديّ المهترئةِ الصدئةِ بحريّةِ الحركةِ وبمرونةِ التصرّف وبسهولةِ المناورة؟ وهل تسمحُ له أميركا بلعبِ دور البطلِ المطلقِ هذا؟

القراءاتُ المبدئيّةُ لنتائجِ الضربةِ الثلاثيّةِ لبعضِ قواعدِ النظامِ العسكريّةِ تقولُ غيرَ ذلك، وتقول السياسة الأمريكية الجديدة التي أعلنها وزير الخارجيّة الأمريكي مايك بومبيو أنها ستعود – ربّما – إلى ساحة الفعل القوي في سوريا بعد مرحلة التردد التي شهدتها في حقبة أوباما السابقة ، وقالتها أيضاً الهجومات الجوية المتكررة بالطائراتِ المسيّرةِ على قاعدةِ حميميم التي تضمُّ ترسانةَ مهولةً من الأسلحةِ الروسيةِ والتي يشكُّ بأنها من كتابةِ وإخراجِ القوّات الإيرانيّة الموجودة في سوريا، كذلك تقولُ التجربةُ الطويلةُ مع النظامِ السوريّ بأنّه غيرُ قابلِ للإصلاحِ أو التغييرِ أو التطوّر، كلُّ تلكَ المعطيات تؤكّد أن الموقف أكثر تعقيداً مما يظنّ ويعتقدُ القيصر.