الخلافات الأمريكية-التركية: تقدّم بسيط لكنه ليس كافياً

2018.11.12 | 23:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في وقت متأخر من مساء يوم السبت الماضي بنظيره الأمريكي دونالد ترامب على مأدبة العشاء التي أقامها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على شرف قادة الدول المشاركة في إحياء الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى. وباستثناء الإِشارة التي صدرت بشكل رسمي عن البيت الأبيض والتي تقول بأنّ الزعيمين ناقشا بالفعل قضية جمال خاشقجي، لم يُصدِر أيٌّ منهما بياناً مُفصّلاً حول ما دار من نقاشات أو النقاط التي تمّ الاتفاق عليها.

الأجواء الإيجابية التي عكستها كاميرات المصوّرين للرئيسين التركي والأمريكي جعلت كثيراً من المراقبين يؤمنون بأنّ اللقاء كان إيجابياً جداً وأنّه سيترك تأثيره من دون شك على الملفات الخلافية العالقة بين الطرفين. ثمّة بالفعل ما يدعم مثل هذا التقييم، فالرجلان تراجعا عن الخطاب الحاد خلال الشهرين الماضيين، الأمر الذي سمح بخلق بيئة مناسبة لتجاوز بعض العقبات القائمة بين البلدين، بعد أن كانت العلاقة بينهما قد شهدت تدهوراً غير مسبوق مع تفاقم أزمة القس برانسون قبلها ببضعة أشهر فقط.

سمحت هذه التهدئة بإفراج السلطات التركية عن القس الأمريكي وعودته الى بلاده، كما أعلنت واشنطن مؤخراً عن تخصيصها مكافأة مالية لمن يدلي بمعلومات عن عدد من قادة حزب العمّال الكردستاني

سمحت هذه التهدئة بإفراج السلطات التركية عن القس الأمريكي وعودته الى بلاده، كما أعلنت واشنطن مؤخراً عن تخصيصها مكافأة مالية لمن يدلي بمعلومات عن عدد من قادة حزب العمّال الكردستاني في خطوة إضافية تهدف الى تحقيق المزيد من التقارب مع الجانب التركي. ليس ثمة أدنى شك بأنّ هذه الإجراءات تضع العلاقة بين البلدين على المسار الصحيح مجدداً، وتساعد على تجاوز بعض العقبات القائمة بينهما، لكن يجب ألّا نبالغ في نهاية المطاف في توقّع نتائج سريعة وحاسمة استناداً إلى الدردشة التي حصلت على هامش العشاء الباريسي.

ملفات الخلاف بين الطرفين لا تزال موجودة، بعضها قد يلقى حلولاً سريعة، والبعض الآخر سينتظر على الأرجح الى وقت غير قصير. على سبيل المثال، لا يزال ملف فتح الله غولن عالقاً، ومن غير المتوقع أن يتم حل هذا الموضوع في أي وقت قريب، إذ سيكون من الصعوبة بمكان على واشنطن أن تقوم بتسليم الرجل الموجود على أراضيها للسلطات التركية. وعليه، فقد يلجأ الطرفان إلى تحييد الانعكاسات السلبية لهذا الملف على الملفات الأخرى، دون أن يعني ذلك توقّف الجانب التركي عن المطالبة باستعادته ومحاكمته لكونه المتهم الأول بالموقوف خلف العملية الانقلابية التي جرت في تركيا في ١٥ يوليو من العام ٢٠١٦.

ويعتبر ملف مكافحة حزب العمّال الكردستاني وأفرعه الإقليمية، لاسيما تلك الموجودة في سوريا على الحدود الشمالية الشرقية للبلاد، الأكثر أهمّية حالياً بالنسبة الى الجانب التركي. يعود السجال بين واشنطن وأنقرة حول هذا الملف بالتحديد إلى بضعة سنوات إلى الوراء. في ذلك الوقت، كانت واشنطن تكتفي بتجاهل المطالب التركية، لكن لم يعد بإمكانها الاعتماد على هذا الأسلوب بعد أن فرضت تركيا نفسها لاعباً أساسياً في المعادلة السورية مع دخول قواتها المسلحة إلى العمق السوري، والتوصل الى تفاهمات ثنائية مع روسيا. من وجهة نظر تركية، هناك فرصة سانحة الآن للضغط على واشنطن لفك تحالفها بشكل كامل مع الميليشيات الكردية، ولأنّ نافذة الوقت قد تنقضي بسرعة، تأمل السلطات التركية في أن تفهم واشنطن الرسالة بشكل جدي كي لا تضطر في نهاية المطاف إلى إطلاق عملية عسكرية جديدة شرق الفرات هذه المرة.

في المقابل، تعي واشنطن حساسية الموقف، وتريد بالفعل أن تبتعد أنقرة عن روسيا، وأن تنسّق معها فيما يتعلق بالموقف من التوسّع الإيراني في المنطقة، لكنّها غير مستعدة على ما يبدو للتخلي كلياً عن الميليشيات الكردية في هذه المرحلة. تصريحات المبعوث الخاص جيمس جيفري بالإضافة الى تكتيك إقرار مكافآت مالية مقابل معلومات توصل إلى قادة حزب العمال الكردستاني تشي بأنّ هناك محاولات لامتصاص الضغط التركي بدلاً من حل الموضوع بشكل جذري.

تعي واشنطن حساسية الموقف، وتريد بالفعل أن تبتعد أنقرة عن روسيا، وأن تنسّق معها فيما يتعلق بالموقف من التوسّع الإيراني في المنطقة

فيما يتعلق بملف خاشقجي، ليس ثمة شك في أنّ مصداقية الجانب التركي أدّت في نهاية المطاف إلى تحقيق تقارب مع إدارة ترامب حول هذا الموضوع سيما مع شعور الرئيس ترامب بالإهانة الشخصية نتيجة كذب المسؤولين السعوديين عليه.  وينطبق نفس الأمر كذلك على بعض مسؤولي الكونغرس ممن يدافعون تقليديا عن السعودية ويعتبرون الآن بأنّهم تلقّوا طعنة في الظهر من قبل الرياض في ملف خاشقجي. تتفق واشنطن وأنقرة على ضرورة معاقبة المسؤولين عن العملية الوحشية التي جرت في القنصلية السعودية في إسطنبول، لكن ربما يكون للرئيس ترامب حسابات سياسية في الموضوع أيضاً، فهو يحاول أن يوازن بين تحقيق ذلك وبين عدم الأضرار بصفقات الأسلحة والمصالح القائمة مع السعودية، وهي معادلة قد تفضي في مرحلة من المراحل إلى اتخاذ مجرد خطوات مخفّفة، أو ربما توظيف الحدث لخدمة مصالح أمريكية فقط ما لم يواكب الجانب التركي هذه التحركات بدقة ويحشد معه الموقف الأوروبي كذلك.

أمّا فيما يتعلق بملف العقوبات على إيران، فإنّ استثناء تركيا إلى جانب سبع دول أخرى يعدّ رسالة إيجابية للسلطات التركية. وبالرغم من أنّ المسؤولين الأتراك كانوا قد شدّدوا مراراً على أنّهم لن يستجيبوا لأي شكل من أشكال العقوبات على طهران، فإنّ الاستفادة من الإعفاءات الأمريكية تقتضي حكماً تخفيض كمية وارداتهم من نفط إيران. لكن في المقابل، يسعى الجانب التركي الى استغلال الفرصة المتاحة بعد انسحاب الشركات الأوروبية من السوق الإيرانية لملءِ الفراغ هناك، وقد يتسبب ذلك بمشاكل مع الجانب الأمريكي لاحقاً. وتشير المعطيات الحالية إلى أنّ إمكانية التوصل الى حل وسط بين الطرفين في هذا الملف ممكنة طالما أنّ الصيغة المطلوبة ستأخذ بعين الاعتبار الالتزام بالعقوبات الأمريكية دون الأضرار بالمصالح التركية.