الخطاب الإعلامي والسياسي الغربي وقضايا الشرق الأوسط

2022.10.21 | 07:24 دمشق

الخطاب الإعلامي والسياسي الغربي وقضايا الشرق الأوسط
+A
حجم الخط
-A

أثارت انتفاضة النساء في إيران ردود فعل لا بأس بها في الساحتين الإعلامية والسياسية العالمية وخاصّة الأوروبية الغربية، وساعد على ذلك انعقاد أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة مع انطلاقة هذه الانتفاضة، مما أظهر تضامناً واسع المدى مع المحتجّات والمحتجّين في إيران. لكنّ هذا التضامن شبه العالمي لم ينتقل من حيّز الأقوال إلى حيّز الأفعال بعد، فكلمات من الرئيس الأميركي أو الفرنسي أو التشيلي، أو خطابات من وزراء خارجيات ألمانيا وبريطانيا وغيرها من الدول، لم تتحوّل إلى مواقف حقيقية ضاغطة على النظام الإيراني لوقف الانتهاكات الخطيرة بحق المواطنين في إيران.

يمكن في هذا المجال الحديث فقط عن مقترح عمليّ قدّمه الملياردير إيلون ماسك للحكومة الأميركية، بشأن تزويد الإيرانيين بخدمة الإنترنت الفضائي عبر برنامج (ستارلينك) لمساعدتهم على مواجهة حظر حكومة بلادهم لهذه الخدمة في أغلب مناطق البلاد، وأغلبُ الظنّ ألا يلقى طريقه للتنفيذ، فقد علّقت الحكومة الأميركية على مساعدته السابقة لأوكرانيا بالقول إنّه أرسل لنا فاتورة ما قدّمه لهم!

يحقّ للمراقب أن يتساءل عن أسباب هذا التضامن المميّز نسبياً هذه المرّة، مقابل حالات مماثلة وربّما أكثر عمقاً وأكبر أهميّة، لم تحظَ بشيء من هذا القبيل!

ربّما كانت أقوى حركات التضامن السياسي هي تلك التي بدأت تتصاعد من قبل السياسيات الأوروبيات من وزيرات وبرلمانيات وغيرهنّ من ناشطات في الشأن العام، فقد اتبعت العديدات منهنّ نفس أسلوب الاحتجاج الذي استخدمته النساء في إيران، أي قصّ الشعر. كانت النائبة في البرلمان الأوروبي، السيدة عبير السهلاني، السويدية من أصول عراقية، من أوائل السياسيات اللواتي قمن بقصّ شعرهنّ على منصّة مقرّ البرلمان الأوروبي، وكذلك النائبة البلجيكية من أصل إيراني داريا صفاعي، ثم وزيرة الخارجيّة البلجيكية المنحدرة من أصول جزائرية حاجّة لحبيب، وغيرهن كثيرات. وستزداد حالات التضامن بلا شك إن تواصلت عمليات الاحتجاج في إيران، وإن تواصل نهج القمع الدموي الذي تتّبعه الحكومة الإيرانية المتطرّفة.

يحقّ للمراقب أن يتساءل عن أسباب هذا التضامن المميّز نسبياً هذه المرّة، مقابل حالات مماثلة وربّما أكثر عمقاً وأكبر أهميّة، لم تحظَ بشيء من هذا القبيل! فهل الأمر متعلّق بطبيعة الاحتجاجات في إيران، أم في مادّتها، أم في القائمات عليها، أم في الوضع الخاص بالمتعاطفات والمتعاطفين في العالم الغربي معها، أم في خليط من هذا وذاك!

يمكن فهم التعاطف المعقول نسبياً مع حركة الاحتجاجات الراهنة في إيران، وتصديرها حركةَ احتجاجات نسائية ضدّ مجتمع ذكوري بالدرجة الأولى وضدّ سلطة حاكمة ديكتاتورية بالدرجة الثانية

الحقيقة أنّ الصورة أوسع مما يبدو، فكثيرٌ من العوامل لعبت وتلعب دوراً في ذلك كلّه، ولعلّ من بين أهمّها الصورة النمطيّة المسبقة المترسّخة في الأذهان عموماً عن منطقتنا الشرق أوسطية بنسائها ورجالها، بحكّامها ومحكوميها، بديكتاتورييها وبالأقل منهم قليلاً وبشعوبها على اختلاف منابتها وقومياتها وأعراقها. فالنظرة العامّة هنا تختزل منطقتنا على اتساعها والاختلاف الكبير بين قيم وتقاليد وعادات شعوبها بحالة جامدة عامّة، وهي: مجموعة من القبائل، لا إطار يحكمها سوى العنف، لا قيم إيجابية في حضارتها وثقافتها، لا مساهمة تُذكر لها في المسيرة الإنسانية، لا دور للنساء فيها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً أيضاً. أمّا في الغرب فإننا نجد تصاعداً هائلاً في أفكار المساواة والتحرر وتمكين النساء، وهذا واضح من خلال زيادة مشاركتهنّ في الشأن العام وفي أعلى المراكز السياسية وفي كثيرٍ من الجوانب الأخرى التي لا مجال لذكرها الآن. لكن بالمقابل، هناك أفكارٌ وحركات راديكالية تحاول فرض برامجها بما يشبه العنف من حيث تكريس حالة فوبيا خاصّة بمواضيعها التي باتت شبه مقدّسة، وويلٌ لمن يعارضها أو يبدي بعض النقد تجاهها، حتى بات بعضها متطرفاً في مقاربة الأمور، أحادياً في تقرير الصواب والخطأ، لدرجاتٍ تنفر منها النفوس لمخالفتها الرائج من الذائقة العامّة.

من هذا المنطلق، يمكن فهم التعاطف المعقول نسبياً مع حركة الاحتجاجات الراهنة في إيران، وتصديرها حركةَ احتجاجات نسائية ضدّ مجتمع ذكوري بالدرجة الأولى وضدّ سلطة حاكمة ديكتاتورية بالدرجة الثانية. يلعبُ الحالُ المتردي الذي ظهرت فيه إلى العلن ثورات الربيع العربي دوراً آخر في هذا الأمر، كذلك حالات التطرّف التي ركّز عليها الإعلام المحلي والإقليمي والعالمي من جهة، والخوف المبالغ به جداً من التجاوز على الأقليات في وقت كانت فيه الأكثريةُ تُذبح وتهجّر وتُعتقل، وتُدمّر مدنها وتُسلب أملاكها بشكل علني من جهة ثانية. لقد باتت الأمور نسقيّة مبرمجة بشكل يدعو للاشمئزاز من شدّة تبسيطها، فأصبح المرء يعتقد بأنّ الألم والظلم والتمييز والإجحاف بحق البشر فيه مفاضلة حسب الدين والعرق واللون والجنس، وليس صحيحاً ما يتمّ الترويج له من أنّه تعاطف مُطلق مع الإنسان أياً كان وأينما وجد وحيثما حلّ.

لا شكَّ بأنّ حكومات الدول الأوروبية والغربية عموماً ومؤسساتها الإعلاميّة مسؤولة بشكل أو بآخر عن هذا القالب الجاهز الذي يُصدّر للرأي العام هنا، لكنّ المسؤولية الأكبر تقع على عاتقنا نحن أهل الشرق إذا ما أردنا التأثير الحقيقي في الرأي العام العالمي. إنّ الاستمرار بالتعاطي مع قضايا حداثية وجدلية بنفس النهج والأسلوب التقليدي المتواكل المعتاد في عوالمنا لن يجدي نفعاً، فتبادل المعلومات هائل السرعة وغزير الكمّية مما يجعل من الطبيعي تكريس الأفكار عن الشعوب إن لم تبادر هي لتغييرها، أو لتصدير الصور الحقيقية عنها لغيرها من شعوب العالم حتى تكون قادرة على استيعابها وعلى التضامن معها، فمن المعلوم أنّ الناس لا تتعاطف إلا مع ما تفهمه وما تشعر به وما تراه قريباً منها، فلا يُعقل أن نحصد تعاطفاً أو تضامناً مع قضايانا العادلة، سواء أكانت إنسانية أم سياسية أم وطنية أم قومية إذا كان الآخرون ينظرون لنا كإرهابيين أو متوحشين أو همج أو متخلفين! علينا العمل بجهد وبموجب الطرائق التي تتناسب وآليات تفكير الشعوب والأمم التي نخاطبها، وإلا فسيبقى الخطاب الإعلامي السائد عنّا كما هو الآن، مما لا يخدمنا ولا يفيد قضايانا.