الحمار الذي خرج وعاد

2021.05.08 | 06:01 دمشق

alhmar_alwhshy.jpg
+A
حجم الخط
-A

نزح آخر حمار وحش في البراري الخضراء والسهوب الفسيحة إلى بلاد الحضارة والمدنية وناطحات السحاب للعيش مع الحُمر الأهلية والمدنية.

 كان قد بقي وحيدًا لأنَّ أهله وعشيرته ماتوا جميعًا، فاستوحش أكثر مما كان وحشيًا، وقرّر الهجرة إلى المدينة، فاشترى فيزا من السوق السوداء، وهاجر، وبلغها بعد أن عبر نهر التماسيح ونجا من أنيابها، فوجد الشوارع مليئة بشعارات المساواة والإخاء والعزّة والديمقراطية، لكنه اكتشف أنها بلاد عنصرية، لأنَّ سكانها نبذوه وسخروا به، وأطلقوا عليه لقب الحمار أبو بيجامة، وحمار "بال وسيكام"، والحمار البنغالي لأّنه مخطط مثل النمر البنغالي، ووصفوه بحمار التخطيط، واكتفوا من كلمة التخطيط بِطيط، وأغروا به الجحاش، فقذفوه بالحجارة وقشور البطيخ وثمار الطماطم الفاسدة.

سعى حمار الوحش البريّ كثيرًا للاندماج والتحضر ونبذ البداوة، فتعلم لغة الحمير الأهلية الصعبة، التي يأتي فيها الفعل في نهاية الجملة، والبكاء على الميت بعد أن ينفضّ العزاء، والحج والناس راجعة، ولم يحصل سوى على مستوى B1، لأنّه حمار، وتخلّق بالحلم، فهو سيّد الأخلاق، وبالكرم، فعمل في المعامل والأسواق وجلي الصحون، وحمل كثيرًا من البضائع السوداء مثل الزبالة في الأزقة الضيقة، وعمل في تهريب الحشيش وتوزيع حبوب الكبتاغون للعصابات والمافيا، ونجا من محاولات قتل كثيرة بالرفس.

وجد حمارًا عجوزًا فضّي اللون يصيد السمك من أجل "الهواية" وتعلّم الحكمة، فالحمير لا تأكل السمك. الأسماك هي التي تأكل الحمير

ثم وجد عملًا في غسل الأطباق في مطعم أعلاف، ولم يستطع الحصول سوى على الإقامة المؤقتة، وكان كلما قصد دوائر البلدية من أجل الإقامة الدائمة عاد خائبًا، فهو حمار بدوي وأبو بيجامة وطيط وبنغالي، ولم يلبِّ الشروط المطلوبة في المقيم.

جلس مرّة على ساحل البحر يائسًا، فوجد حمارًا عجوزًا فضّي اللون يصيد السمك من أجل "الهواية" وتعلّم الحكمة، فالحمير لا تأكل السمك. الأسماك هي التي تأكل الحمير.

أشفق عليه الحمار العجوز ورأف بحاله بعد أن عرف قصته، ونصحه بأن يصاهر عائلة حمير أهلية حتى يتحسّن موقعه وتَشرف منزلته عند التقدم للجنسية أو الإقامة المؤقتة أو الدائمة، فعمل بوصيته، واستلطف حمارة رمادية وجدها في الحديقة، وتقدم بطلب حافرها، فصحبته إلى دارها، لكن والداها طرده من بيته لأنه حمار بدوي وأعرابي وبنغالي وبال وسيكام.

تعجّب حمار الوحش من الأمر، فحُمر الوحش أجمل وأوسم من الحمر الأهلية وأكثر رشاقة، وأسرع جريًا وأقوى احتمالًا، لكن العنصرية هي العنصرية، ضد المنطق وتجافي العقل، العنصرية نزغ من الشيطان.

تقدّم ­سعيًا في الاستقرار والذرّية والسكن النفسي لحمارة عرجاء كتعاء بلغت أرذل العمر، فسعدت بهذا الحمار المخطط الوسيم، وحاولت إقناع أبيها به، فاقتنع على مضض بهذا العلج، وطلب منه مهرًا معجله رأس سبع، ومؤجله رأس نمر، وأن يصبغ نفسه بلون رمادي، ويزيل خطوطه، فقرر حمار الوحش أن يعيش عزبًا وطرح نية الزواج كليًا من رأسه، لأنه لا طاقة له بهذا المهر الغالي، ولا يستطيع أن يفرّط بهويته ولون جلده.

عاد إلى ساحل البحر، فوجد الحمار الحكيم الأهلي يصيد السمك ليس من أجل الطعام فالحمير لا تأكل اللحوم، وإنما من أجل المتعة وتعلّم الحكمة، ربما كان الحمار يطمع في لؤلؤة يجدها في بطن سمكة.

 أشار عليه الحمار الحكيم أن يعمل بنصيحة حميّه ويحلق وبره، ويصبغ جلده بلون فضّي أو لون رمادي، فيصير حمارًا أهليًا مثل الحمير، فيستنقذ نفسه من العنصرية والازدراء وعبارات الشتم والسبِّ، وتلا عليه بيتًا من الشعر يقول:

 فَدَارِهِمْ مَا دُمْتَ فِي دَارِهِمْ . . . وَأَرْضِهِمْ مَا دُمْتَ فِي أَرْضِهِمْ

خفّفت الأصبغة من غربة حمار الوحش الذي عانى كثيرًا في مجتمع الحُمر الأهلّية المتحضر، لكن لكنَتَه كانت تفضحه، فكان يفضّل الخرَس، والكلام بالوما والإشارة، ويقلل من الكلام إلى أقصى حدّ، فلغة حمير المدن نهيق، بينما لغة حمر البرّ فكفكة.

البراري وإن كانت خطرة، يكثر فيها السباع، والوحوش التي تكمن في الأجمة ووراء التلال وبين الأعشاب، فهي برارٍ طاهرة، ليس فيها عنصرية، ولا تطلب شهادات لغوية للاندماج

وفي أحد الأيام بينما كان يحمل الطرود على ظهره لنقلها إلى أصحابها، هطل مطر غزير، فزال صباغه، وصار عاريًا من كل لون.

تذكّر حمار الوحش البراري الشاسعة، وندم على النزوح إلى مدن الحضارة، وأسف على نفسه، وعضَّ على يده من الندم، فالبراري وإن كانت خطرة، تكثر فيها السباع، والوحوش التي تكمن في الأجمة ووراء التلال وبين الأعشاب، فهي برارٍ طاهرة، ليس فيها عنصرية، ولا تطلب شهادات لغوية للاندماج، وكل من يولد فيها له حق الجنسية والإقامة والتنقل من غير جواز سفر، وليس فيها مديرون، وقرّر التحرر من الأصبغة، والعودة إلى البراري والسهوب حتى يموت تحت السماء الصافية.

كلمات مفتاحية