الشّعر والسّلطة تحمل هذه الثنائية في طياتها توتراً عميقاً، فكيف نجمع الشّعر مع السّلطة دون خوفٍ على الشّعر، فالشّعر لصيقُ الحريّة وليدُ الإبداع، فتىً بريّ غير قابلٍ للتّدجين، أما السّلطة فمن دعائمها وضع القوانين ونشر التعاليم صّارمة تروّض من تحت إمرتها ليسلموا لها تسليماً أعمى.
قد ينسجم الشّعر مع قوانين السّلطة أحياناً ويوقعان بينهما مذكّرة تفاهم، تحتَفي السلطة بالشاعر حينها وترفع مكانته، ولا يعنيها بالطبع إن كان الشّاعر متزلفًا أم صادقًا، وإن كان ما يقدمه غثًّا أم سمينًا، أما المتلّقي والجمهور الواعي يعنيه هذا لأنّ الصّدق هو المفتاح الذي يفتح باب النّص أمام الجمهور ويسهل وصوله.
المواجهة بين الشّعر والسلطة مواجهة غير متكافئة إذ ببساطة يُحكم على الشّاعر بالقتل، بالسّجن، أو النفي بأحسن الأحوال، لكنّ الشّعر يبقى رغم كلّ القيود، بل أحياناً يكون عنف ردّ فعل السّلطة اتجاه عملٍ إبداعي أكبر داعمٍ لانتشاره، فسجن شاعر يجعل اسمه متداولاً مهما كان نتاجه متواضعاً، ولائحة الكتب الممنوعة من المشاركة في أحد معارض الكتاب تصبح من الكتب الأعلى مبيعاً بفترة قصيرة من باب أنّ كلّ ممنوع مرغوب.
من أوضح مواجهات هذه الثّنائية هي مواجهة الشّعر الصّوفي للسلطتين الدّينية والسّياسية بآن، الشّعراء المتصوفة كثر وقصصهم كثيرة بدورها، سنبدؤها بمنصور الحلّاج الذي ولد عام858م خلال فترة الحكم العبّاسي لغرب بلاد فارس في مدينته "البيضاء" حيث كانت الزرادشتيّة منتشرة، جده كان يدين بها بينما والداه كانا مسلمين، أمضى أغلب حياته في العراق –هناك من يقول إنه من مدينة البيضاء الواقعة جنوب العراق. تنقّل بالبلاد حتّى وصل الهند، واعتكف في مكة لفترة، وفي عمر صغير تلقّى الصّوفية من أعلامها كالجنيد وسهل التستري وعمرو بن عثمان المكي أبو الحسين النوري، ليصبح له لاحقاً مريدون وتلاميذ، لكن سرعان ما بدأت المشاكل بينه وبين شيوخ الصوفية الذين يفضلون العزلة ولا يصرّحون بآرائهم بينما الحلاج يصرّح بأفكاره منتقداً الحال والأوضاع، داعياً لإحقاق الحق، كان التّصوف بالنسبة له جهاداً ضد الظلم فهو ليس مجرد تجربة روحيّة، بل في كثير من الأحيان هو موقف وجودي يضع صاحبه في مواجهةٍ مع السّلطة، سواء كانت دينية أو سياسيّة، فالشّاعر الصّوفي لا يكتب ليُرضي، بل ليكشف، وليقول ما لا يُقال.
والحلّاج يعتبر أول من قدّم الشّعر الصّوفي كخطاب مقاومة بطريقة عميقة وفلسفية، في شعره تتجلّى اللّغة ككائن حيّ، تتجاوز المعاني الظاهرة لتغوص في أعماق النفس، كان يكتب وكأن كل بيت هو صلاة، وكل كلمة هي قطرة من دمه، تحدّى الشّعر السلطة من حيث لا يدري، فزعزع يقينها، وكشف هشاشتها أمام قوة الروح.
لم يعترف إلا بسلطة واحدة: سلطة الحبّ الإلهي، وهي سلطة لا تُقاس بالقوانين ولا تُحدّ بالحدود.
في بعض قصائده يستخدم الكلمات المباشرة لوصف حالة الوصل الإلهي مثل هذه القصيدة:
"رأيت ربّي بعين قلبي فقلت من أنت قال أنت
فليس للأين منك أينٌ وليس أينٌ بحيث أنت"
وهنا استخدام مجازي للفظ العين فهي رؤية عرفانية وليست رؤية بصريّة، فالمقصود معرفة الله عن طريق القلب وللقلب عنده درجة إدراك مثله مثل العقل لكن للأمور الأسمى والمتغلغلة في الرّوح.
أو قد يشير لهذا التّماهي عبر توجيه الشّعر للأنثى فنجد كثير من القصائد تحتمل التأويل على مستويات مختلفة ومتفاوتة وذاك يعتمد على سعة أفق المتلقي وثقافته حول الصّوفية:
"يا موضع النّاظر من ناظري ويا مكان السّر من خاطري
يا جملة الكلّ التي كلّها أحبّ من بعضي ومن سائري"
أو:
"أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
نحن مذ كنّا على عهد الهوى تضرب الأمثال للنّاس بنا"
للحلاج قصائد مشهورة على نطاق واسع، وهنا واحدة من أشهرها لحنها وغنّاها كثر:
والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبّك مقرونٌ بأنفاسي
ولا جلستُ إلى قومٍ أحدّثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي
ولا ذكرتك محزوناً ولا فرحاً إلا وأنت بقلبي بين وسواسي
ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا رأيت خيالا منك في الكأس
ولو قدرت على الإتيان جئتكم سعيا على الوجه أو مشيا على الرأس
ومن بين هذه القصائد الكثيرة كتبت نهايته كلمتان فقط، وهنا ملخص لقصة متداول أنها أوصلته رمادًا لدجلة. كان الحلّاج في السّجن مع آخرين، فلمّا جنّ الليل، قال: "أيها السُّجناء! سأخلّصكم".
قالوا: "لمَ لا تخلّص نفسَك؟".
قال: "نحنُ في قيد الله، ونحرس ذلك الأمان، إن شئنا لفككنا كلّ القيود" وأشار حينها بإصبعه فانفسخت القيودُ جميعاً.
قالوا: "إلى أين نذهب الآن؟ فبابُ السّجن مغلق". فأشار فبرزتْ فُرجٌ.
قال: "اسلِموا برؤوسكم الآن".
قالوا: "ألا تأتي؟"
قال: "لنا سرُّ معه، لا نستطيع البوحَ به إلا فوق المشنقة".
سئل في اليوم التالي قالوا: "أين ذهب السجناء؟" فأخبرهم أنه أطلق سراحهم
فسألوه "ولمَ لم تذهب أنت؟"
فقال: "للحقّ معنا عتابٌ، لذا لم نذهب"
وصل الخبر للخليفة فقال: "سيشعل فتنةً، اقتُلوه أو اضربوه بالعصا ليعدل عن هذا الحديث". ضربوه ثلاثمئة ضربة، وفي كلّ ضربة كان يصل صوتُ هاتفٍ بليغ يقول: "لا تخف يا منصور!" ثمّ أخذوه للقتل ثانية، مئة ألف شخص كانوا قد اجتمعوا وهو يشيح بعينيه نحوهم قاطبةً، ويقول: "حق، حق، حق، أنا الحقّ" لم يكن يتحدث من موقع التّحدي السّياسي الديني بمقولته "أنا الحق" بل من موقع الفناء الصوفي، حيث يذوب العاشق في المحبوب حتى لا يبقى منه شيء، لكن السّلطة، التي لا تقرأ إلا الظّاهر، رأت في عبارته "أنا الحقّ" تهديداً لعقيدتها، وادعاءً للألوهية، فكان الرد قاسياً: التعذيب وتقطيع الأطراف، الصلب لثلاثة أيام، والحرق، ثم نثر الرماد في دجلة.
لم تكن محاكمة الحلاج مجرد إجراء قضائي، بل كانت لحظة فاصلة في تاريخ التّصوف، حيث اصطدمت الحرّية الرّوحية بجدار السّلطة الدّينية والسّياسية، لقد دفع الحلاج ثمن حريته الرّوحية فتحوّل من عاشقٍ لشهيد، شعره وفكره صارا جريمة تستوجب العقاب، دفع ثمن لغته التي تجاوزت حدود الفقه، لتدخل في فضاء العرفان، لم يكن الحلاج ينطق باسمه وحده، بل كان يمثل كل من آمن بأن الطريق إلى الله لا يُرسم بالحدود، بل يُكتشف بالحب.
اتهم الحلاج بالسّحر والشّعوذة التي قيل إنّه تعلّمها من الهند آخرون اتهموه بالجنون تارة وبالكفر والزّندقة تارات وتارات، لكنّ الحلّاج انتصر في النهاية على قاتله ليس بقبوله الموت بقوة، ولا بتحديه لقاتله بشجاعة، بل انتصاره الحقيقي يتجسد ببقاء شعر الحلّاج حيّاً بعد مرور أكثر من ألف ومئة عام على رحيله، شعره اليوم مرجعية لكل من أراد أن يكتب عن الحب الإلهي أو يتعرّف على الشعر الصّوفي متأملاً سرّ الفناء والبقاء تجربته نموذج للتّوحد مع المطلق، وللشّجاعة في التّعبير عن التجربة الروحية مهما كانت العواقب وبهذا كان ملهماً لكبار شعراء التّصوّف مثل جلال الدّين الرّومي، وفريد الدّين العطار، وابن عربي.
لذا كلّما قُرئت له قصيدة يجمع رماده من دجلة ويقوم كالعنقاء من جديد هامساً لنا: "من لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يعشق، ومن لم يعشق لم يصل".