الحضور الصارخ في الغياب

2022.05.18 | 06:50 دمشق

1062219884_0_0_2949_1660_1920x0_80_0_0_f289094f9f911766bb45cd86d6ad2470.jpg
+A
حجم الخط
-A

حضورها في الغياب كان أقوى من حضورها في الحضور، ينطبق هذا القول تماما على الشهيدة شيرين أبو عاقلة التي كانت الحاضرة الأكثر قوة في الحشد المهول الذي رافق جثمانها إلى مثواه الأخير، ربما أيضا، ولأن الحدث فلسطيني وفي قلب فلسطين، كان ينقص التغطية صوتها المألوف وهو يرصد كل تفصيل في التفاصيل الكثيرة الحميمية والمخيفة التي حدثت في وداعها.

صوتها كان الغائب الحاضر الذي أكاد أكون واثقة أن الملايين قد سمعته عبر شاشة قناة الجزيرة في تغطيتها للوداع الضخم لجسد شيرين أبو عاقلة القتيل. ترى ما الذي أخاف جيش الاحتلال إلى هذا الحد حتى أراد سرقة التابوت والجسد المسجى فيه ومنع الفلسطينيين من وداعها؟ هل أخافتهم الكثرة التي افتقدوها منذ زمن نتيجة الخلافات التي قصمت ظهر القضية الفلسطينية؟ أم أخافهم أن الملايين حول العالم سوف يشاهدون في نفس اللحظة نتاج جريمة استهداف الصحافة؟ أم أخافتهم رمزية الجنازة وعودة فلسطين وعلم فلسطين وصوت فلسطين إلى الواجهة بعد عقود من الأصوات العالية الناشزة المختلفة التي أودت بفلسطين وقضيتها إلى المصير الذي وصلت إليه من انقسام ونكران، ومن التهافت العربي لدفن القضية الفلسطينية وتبييض صفحة المحتل، والتهافت الرسمي العربي لتطبيع كل أنواع العلاقات معه، والإيعاز إلى الإعلام الموالي لتغيير الخطاب المتعلق به وتحويله خطابا موجها إلى أصدقاء، والتضييق على كل ما يخالف هذا التوجه المريب، والذي ترافق أيضا مع تغييرات سياسية عربية وانهيارات اقتصادية سوف تكون هي الذريعة الأولى، (والتي للأسف بدأت تسمع في الشارع العربي وليس فقط في الخطاب الرسمي) لتبرير التطبيع ونكران القضية الفلسطينية بالكامل.

شيرين أبو عاقلة لم تكن يوما شخصية فلسطينية عادية، رغم أنها ليست شخصية سياسية ولم تصنف يوما كواحدة من النخب الفكرية أو الثقافية الفلسطينية المؤثرة،  لكنها كانت أكثر حضورا من أولئك جميعا

كانت جنازة شيرين أبو عاقلة بمثابة الرد على كل ما سبق، بمثابة التنبيه إلى أن الجرح ما زال نازفا وينز منه الألم مهما حاولوا تغطيته وإخفاء آثاره، عادت فلسطين مجددا إلى واجهة الحدث ردا على كل محاولات إقصائها، رغم أن ثمن ذلك كان فادحا فشيرين أبو عاقلة لم تكن يوما شخصية فلسطينية عادية، رغم أنها ليست شخصية سياسية ولم تصنف يوما كواحدة من النخب الفكرية أو الثقافية الفلسطينية المؤثرة،  لكنها كانت أكثر حضورا من أولئك جميعا، فهي الإعلامية التي كان صوتها منذ أكثر من عشرين عاما مرافقا لكل الأحداث على امتداد فلسطين المحتلة، وهو ما جعل من صوتها جزءا من فلسطين وقضيتها في الوجدان العربي أو الغربي المناصر للقضية، وكانت الصحفية الشجاعة التي لا تتوانى عن الذهاب إلى أخطر الأماكن كي تنقل الحقيقة، وكانت المرأة الفلسطينية الحاضرة عن كل النساء الفلسطينيات اللواتي لطالما كن مخزن القوة الحقيقي للقضية الفلسطينية قبل أن يتم إقصاؤهن لصالح حركات وفصائل سلطوية وذكورية كان لها دورها الواضح في قصم ظهر القضية ودعم كل الشعارات الطنانة التي رفعتها وأطلقتها لكسب التعاطف الشعبي والعالمي معها.

شخصية شيرين أبو عاقلة كانت الضد لكل من ساعد على تحويل فلسطين إلى مجموعات مذهبية أو إيديولوجية تتناحر وتتنافس دون أن تقدم للفلسطينيين ما يفيد، ودون أن تلحق أية خسارة حقيقية بالمحتل، فشيرين المرأة الفلسطينية التي لم يعرف مذهبها الديني حتى يوم استشهادها، والموجودة في كل بيت فلسطيني وعربي، والتي يعرفها العالم دون أن تدخل إلى أروقة وكواليس ودهاليز الاجتماعات والمؤتمرات والتحالفات والتمويلات وغيره، وهي المرأة الفلسطينية القوية والعاملة، المرأة التي اختارت العمل الميداني بدلا من الحياة الزوجية والأبناء، والتي اختارت البقاء في فلسطين رغم قدرتها على العيش في أي مكان في العالم، هي باختصار، تمثل كل ما هو ضد الذكورية التي فرضت نفسها على القضية الفلسطينية وسيطرت عليها، لهذا كان اغتيالها صادما إلى هذا الحد، ولهذا كان رد الفعل عليه ربما أقوى حتى مما توقعه قاتلوها، ولهذا تحولت جنازتها إلى حشد ليس للفلسطينيين بل للقضية نفسها، وكأنما كانت فلسطين تحتاج إلى رحيل كبير وراجع كهذا كي تعيد نفسها إلى واجهة الحدث في أقوى رد على التهافت التطبيعي العربي الرسمي وغير الرسمي.

لماذا لم يستطع السوريون أن يتفقوا خلال السنوات العشر الماضية على شخصية واحدة يمكنها أن تشكل نقطة التقاء لمن هم مؤيدون للثورة

وأنا أتابع جنازة شيرين أبو عاقلة سألت نفسي سؤالا، أظن أنه خطر في بال كثر من السوريين: هل لدينا في سوريا شخصية ما يمكن أن يشكل رحيلها علامة فارقة في العلاقات المجتمعية السورية التي تفتت بعد الثورة عام 2011؟ هل ثمة شخصية يمكن أن يجتمع حولها السوريون جميعا؟ طبعا لا بد هنا من التذكير بالظروف المختلفة للقضيتين الفلسطينية والسورية، والتي هي لصالح قضية فلسطين والفلسطينيين الذين ورغم كل عسف وإجرام الاحتلال الإسرائيلي فإنهم لم يتعرضوا منذ النكسة وحتى الآن إلى نصف ما تعرض له السوريون خلال العقد الماضي من جرائم دولة ونظام وميليشيات مسلحة وحركات جهادية راديكالية وحرب متواصلة وموت متنقل وقتل تحت التعذيب وتشريد وتهجير وتدمير لا سابقة له من حيث العنف ومن حيث المدة الزمنية القصيرة التي حصل بها.

ومع ذلك، وإذا تغاضينا عن كل ما سبق، أيضا لا بد من السؤال: لماذا لم يستطع السوريون أن يتفقوا خلال السنوات العشر الماضية على شخصية واحدة يمكنها أن تشكل نقطة التقاء لمن هم مؤيدون للثورة، أو على الأقل لمن هم في الخارج من معارضي النظام؟ لماذا يتسابق السوريون نحو القتل المعنوي لكل شخصياتهم؟ وهل يمكن أن يحدث فعلا أن يتفق السوريون على أحد ما حتى حين وفاته أم إننا نحتاج لأن نمرّ بكل الزمن والمراحل التي مرّ بها الفلسطينيون قبلنا؟ أم سنبقى هكذا نتبع هوياتنا المذهبية والإيديولوجية بدلا من هوية وطنية سورية جامعة؟