الحرّية بمواجهة الأمن.. من بطريرك ثورة لبنان إلى "أب" ثورة سوريا

2019.05.16 | 09:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لطالما تخطّت إشكالية العلاقة الاجتماعية بين سوريا ولبنان الجدل السياسي والخلاف الجوهري المديد والأصيل حول كياني البلدين. كان الإشكال الاجتماعي يفوق الإشكاليات السياسية على الرغم من عمقها تاريخياً. لكن جوانب هذا الإشكال بدأت بالاتضاح بالنسبة إلى المجتمعين ما بعد أحداث ثورتين، عرّفت أبناء كل مجتمع على مجتمعهم، فأسهمت معرفة المرء لمجتمعه في التعرّف إلى المجتمع المجاور. لحظة تحوّلية تكفي لإسقاط جدران من أساطير. وهذا ما حصل بين لبنان وسوريا، ما بين عامي 2005 و2011. قبل هذين الحدثين، كانت فرص الالتقاء على وحدة الهدف شبه منعدمة، باستثناء ربيع دمشق، أو العلاقة التي ربطت نخبة مثقفي العاصمتين. وجملة سمير الشهيرة، بأن "ربيع العرب حين يزهر في بيروت إنما يعلن أوان الورد في دمشق".

قبل هذين الحدثين، كانت بيروت ملجأ المثقفين السوريين والسياسيين المنفيين، لتأتي جملة سمير قصير كنتاج لأفكار مثقفين سوريين وأعلام سياسة كياسين الحافظ مثلاً الذي أكد ضرورة الحفاظ على النموذج اللبناني الفريد. ويظهر الإرث المشترك اللبناني السوري، بتجلّ على الرغم من جوانبه المخفية. خاصة الصراع المشترك بين النخب السورية واللبنانية، الذين فهموا بعمق المسألتين السورية واللبنانية، ويمتد هذا الصراع، على تاريخ طويل. فمنذ لحظة استقلال البلدين، برز دور ساسة سوريين ومثقفين وأكاديميين، من الذين تفهموا الاستقلال اللبناني من خارج الاشكال الذي أرسته الثقافة البعثية. وفي العام 1976، أصدر نخبة من مثقفي سوريا بياناً يعارض التدخل السوري في لبنان. كان ذلك تمهيداً للالتقاء في محطات أخرى،  كبياني بيروت دمشق، ودمشق بيروت، اللذين صدرا بنفس التوقيت، حول ضرورة تركيب علاقة صحية ما بين لبنان وسوريا. 

كان هؤلاء المثقفون أصحاب بُعد استشرافي لمصير الشعبين المرتبطين ببعضهما البعض

كان هؤلاء المثقفون أصحاب بعد استشرافي لمصير الشعبين المرتبطين ببعضهما البعض، خارج منظومة وحدة المسار والمصير التي أرساها البعث مع النظام الأمني اللبناني، وخارج منطق حافظ الأسد وفق معادلة شعب واحد في بلدين، كان المجتمعان مصابين بعمى سياسي واجتماعي، ويتعالى الشعبان على بعضهما البعض، فيحسب السوريون اللبنانيين في سلّة واحدة، فيها كل ما هو منبوذ وعنصري بالنسبة إليهم. بينما حسب اللبنانيون السوريين جميعهم على النظام الذي اكتووا بناره. المشكلة الأساسية في ذلك، كانت بسبب تأسيس نظام البعث لتجربة سياسية مختلفة عن التجربة السياسية اللبنانية، ويقوم هذا الاختلاف على ازدراء فكرة التعدد، والاعتراف بالتنوع والجماعات، مقابل أيديولوجيا الصهر القومي البعثي الذي أظهر فشله، وعدم قدرته على تحقيق الوحدة، لحساب الإمعان في التمزيق الجغرافي والمذهبي والطائفي. 

وعندما كتب نزار قباني "يا ست الدنيا يا بيروت"، إنما كان يحاكي كوامن واختلاجات السوريين تجاه بيروت، "نعترف أمام الله الواحد أنّا كنّا منك نغار، وكان جمالك يؤذينا". يصيب القباني تلك الغيرة، غيرة أبناء دمشق التواقين إلى حرية تشبه سحر بيروت، ويعترف بعدم الإنصاف وعدم فهمها. وتلك تفسّر مدى سوء الفهم والتفاهم بين المجتمعين على مدار سنوات بسبب السياسات التي سادت فيهما.

كانت ثورة 14 آذار 2005 في لبنان، أول الكلام اللبناني. كان اللبنانيون يتعرّفون إلى صوتهم، من خلال مناشدة الحرية والسيادة والاستقلال. رجوا أن يلقى الصوت صداه في الشام، والذي يمثّل أيضاً بيتا سعيد عقل حين يقول:" شآمُ لفظُ الشآمِ اهتزَّ في خَلَدي كما اهتزازُ غصونِ الأرزِ في الهُدُبِ... أنا صوتي منك يا بردى مثلما نَبْعُكَ من سُحُبي." وما تعنيه أبعاد هذا الكلام من التكامل والترابط بين البلدين. فصنع الشعب السوري صوته في آذار العام 2011، مطالباً بالحرية. كانت صناعة الصوت ذاك المرحلة الثانية من الفهم المتكامل ما بين المجتمعين ضد جاهة واحدة قمعتهما.

"إذا ما خيّرنا بين الأمن والحرية نختار الحرية"

وحده البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، كان قد استبق هذا التلاقي، في عبارته الشهيرة، "إذا ما خيّرنا بين الأمن والحرية نختار الحرية". هذا الشعار الذي كان مزعجاً للنظام السوري، بينما تتطابق بعد سنوات على إطلاقه مع شعارات الثورة السورية ومطالب الثوار. والأقسى وقعاً على النظام، هو إجابته على سؤال إذا ما كان سيزور قصر المهاجرين في دمشق، فأجاب:" وأين يقع قصر المهاجرين؟".

في إحدى تظاهرات سراقب في محافظة إدلب بالعام 2011، رفع الثوار السوريون صورة للبطريرك صفير. كانت معاني الصورة بعيدة المدى، وتؤشر إلى مدنية الثورة لا تطرّفها، وتكاملها مع الثورة اللبنانية التي أجهضت، وكان صفير عرّابها على قاعدة قدسية مطلب السوريين وهو الحرية والكرامة، على أساس المواطنية وليس المذهبية أو الطائفية. وهو الذي استقال رافضاً تطبيع العلاقات مع النظام السوري، أو الموافقة على السير في مشروع جهنّمي هو مشروع تحالف الأقليات، والذي أدّى إلى تدمير سوريا ثورة وشعباً.

كان نصر الله صفير، الشخصية اللبنانية الوحيدة العصية على سطوة النظام السوري وإدارته لمجريات الأحداث اللبنانية. وهو الذي بقي خارج هذه السيطرة منذ التسعينيات إلى العام 2005، مؤكداً أنه الملاذ لكل المعترضين على النفوذ السوري. رفض تقريش الحسابات مع النظام السوري في الجانب المسيحي، وأصر على إبقائها في شقها اللبناني. وإذا ما كسب اللبنانيون والسوريون، نصيراً مارونياً رئيساً للكنيسة المارونية لثوراتهم ومطالبهم، لا بل كان متقدّماً عليهم في ذلك، إلا أن الشعبين قد نكبا برجال دين، أو منتحلي صفاتهم، كانت جلّ توجهاتهم ضد الدنيا وحياتها، ويركزون على استنزاف الشعوب طمعاً بالآخرة. فإن أعجل ما يحتاجه الشعبان هو إلى ملهم، على الحياة وفنونها وليس على الموت وسردياته.

كان لسوريا الثورة الأب باولو دالوليو، وللبنان الاستقلال البطريرك صفير.. كان اختفاء الأول علامة على الغدر الذي خطف الثورة، واستقالة الثاني قبل رحيله علامة على استعصاء حرية لبنان من دون ديموقراطية سوريا. يرحل البطريرك نصر الله صفير، تاركاً وراءه شعبين منكوبين في لبنان وسوريا، لكن واجب الرحيل أن يفرض على الشعبين الولوج إلى جزء جديد من المراجعة السياسية للنظرة السورية للبنان والنظرة اللبنانية لسوريا.