الحرية باعتبارها فنّاً

2019.10.25 | 16:24 دمشق

bl.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان عليّ في الخارج أن أتعلّم فنّ الحرية. وفنّ الحرية يبدأ بإتقان المشي والحديث والتخلص من لغتك العدائية التي اكتسبتها خلال عشرة أعوام ذكورية، ريفية، خشنة واكتساب لغة المدينة والمجتمع من جديد. ثم عليك أن تتعلم من جديد الجلوس على كرسي أو أريكة، بعد أن افترشت الأرض كل تلك الفترة، لم تجلس خلالها على كرسي. ظللت أشهرا طويلة، وما زلت بعد دهر من الحريّة، أتحيّن الفرصة الممكنة لأجلس على الأرض، وكثيرا ما انحدرت من كنبتي التي أجلس عليها على السجادة في فصل الشتاء، فأمدّد ساقيّ، وأتابع حديثا مع زوجتي أو بعض ضيوفي، وتنظر زوجتي إليّ في ما يشبه التأنيب. ثم يأتي، بعد ذلك، دور السلوك المديني كارتياد المقاهي والبارات والندوات والمحاضرات والأمسيات الموسيقية.

بيد أن أهم من ذلك هو أن تتعلم ألا تخاف. تمرّ سنوات طويلة قبل أن تستطيع أن تمر بجانب رجل مسلح أو سيارة أمن أو فرع من الفروع التي زرتها خلال رحلتك الطويلة دون أن ترتعش للحظة، قبل أن تدرك أنه لم يعد من خطر عليك. حين سافرت من دمشق إلى حمص بعد يومين من إطلاق سراحي، كان معي ورقة صغيرة كتب عليها: "المواطن وائل السوّاح كان موقوفا لأسباب أمنية. تعتبر هذه الوثيقة وثيقة شخصية حتى استصداره بطاقة شخصية جديدة." صحبني أخي سحبان إلى كراج العباسيين لسيارات الأجرة، ثم ودّعني وتركني لمصيري. جاء السائق وطلب بطاقة الهوية. بيد مرتجفة أعطيته تلك الورقة، فقرأها، وأعاد قراءتها، دون أن يفهم شيئا.

"ما هذه؟"

تمنيت لو أن سحبان ما تركني لمصيري الغامض. قلت بصوت مرتجف:" وثيقة تعريف."

"شو يعني. ما معك هوية."

"لا."

"فقدتها؟"

"لا، كنت موقوفا."

نظر إلي لوهلة ثم سأل باضطراب: "بالحبس يعني؟"

لست أدري كم سيؤثر هذا على صورة البطل الذي سترسمه لي في ذهنها ابنتي. ولكنني لست بطلا. لا أريد أن أكون. أريد أن أعيش في عالم لا يرافقني فيه شعور الخوف

فهمها أخيرا. أحسست بالراحة لأنني لم أقلها أنا، ولكنني لم أعرف ماذا سيتبع ذلك. أخذ السائق الورقة وابتعد بها إلى حيث لا أدري. صار خوفي خوفين: أن تسبب لي هذه الورقة مزيدا من المشكلات وأن يفقد السائق الورقة ببساطة. كم كان ذلك سيكلفني عرقا جديدا ودما وأعصابا؟ وهل كانوا سيعطونني بديلا عنها. دقائق، عاد بعدها السائق وأعطاني الوثيقة، ثم ركب السيارة وانطلق بها إلى حمص، دون أن يعيرني أي انتباه. ورائي، في المقعد الخلفي، كان ثمة ثلاثة ركاب آخرين. خلت أعينهم مثبتته في مؤخرة رأسي كالسكاكين. وفي رأسي دارت عشرات السيناريوهات حول كيف يمكن لهذه الرحلة أن تنتهي.

الرحلة انتهت في حمص. وقفت السيارة في المحطة الأخيرة، ونزل منها الركاب ومضى كل في سبيله. على أن الخوف لم يزايلني. ظلّ ينخر في العظم ويضغط على الرئتين وشرايين القلب. ظلّ الخوف يرافقني في كل مرة كنت أخرج فيها من البيت. ويزداد حين يتعين على أن أسافر من مدينة إلى أخرى. واستبد بي خصوصا في كل مرة أغادر فيها مطار دمشق أو أعود إليه من رحلة إلى الخارج. لست أدري كم سيؤثر هذا على صورة البطل الذي سترسمه لي في ذهنها ابنتي. ولكنني لست بطلا. لا أريد أن أكون. أريد أن أعيش في عالم لا يرافقني فيه شعور الخوف من رنة التلفون، وقرع جرس الباب، واقتراب رجل غريب في الشارع نحوي ليسأل عن الطريق أو الساعة.

حين طلب منا السجان أن نضبّ أغراضنا، جمعنا، منيف وأنا، أشياءنا في دقيقتين: علب الحلاوة والدخان وكيس السكاكر وقنينة الزيت. حملنا كل شيء ومشينا وراء السجان. خرجنا من رواق الزنازين الانفرادية إلى بهو الحمام الذي يضمّ أيضا زنازين جماعية. فتح السجان باب المهجع رقم 2 وأدخلنا إلى عالم مختلف تماما عن كل عالم آخر. كانت مساحة المهجع لا تزيد عن اثني عشر مترا مربعا ويضم حوالي الثلاثين سجينا. نفَذَتْ إلى أنفي رائحة حامضة واخزة، هي مزيج من العرق ورائحة الرجولة المخمرة. شخصت إلينا الأبصار. ستون عينا راحت تغسلنا بالفضول والتساؤل، حتى بدرت مني عبارة تحية:

" السلام عليكم."

"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته."

ثم راح شخص يعطي تعليماته للآخرين فبدأت الأجساد تزمزم بعضها وتلزّ من أجل خلق مساحة للجسدين الوافدين. ذلك الشخص كان رئيس المهجع ويحلو للسجانين أن ينادونه "شاويش." وهو رجل اكتشفت فيما بعد أنه يمتلك سلطة حقيقية على المسجونين في مهجعه. بعض الشاويشية كانوا يحولون حياة السجناء داخل المهجع إلى كابوس دائم. آخرون كانوا يكتفون بميزاتهم ويساعدون الآخرين إذا استطاعوا. من ميزات الشاويش أنه يأخذ المكان الذي يحلو له، وهو غالبا قرب الباب، وهو يأخذ مساحة مضاعفة مرة أو مرتين عن أي سجين آخر في المهجع، ويتمتع بوجبة وافرة، وهو الذي يقسّم الرزاق بين أفراد المهجع. بيد أن الأهم هو أنه لا يقف في الرتل بانتظار الدخول إلى الحمام. وهذه وحدها ميزة في غاية الأهمية، إذا علمت أن الدور يمكن أن يأخذ ساعة كاملة أو ساعتين قبل أن تصل إلى غايتك وهي إفراغ المثانة أو الأمعاء، ولا نتحدث هنا عن ترف غسل اليدين قبل الطعام أو بعده، فهذه أشياء لا طاقة للسجين بها.

في أحد المهاجع، كان ثمة مساعدون للشاويش وأحدهم كان مساعد الشاويش لتنظيم دخول الحمام. كان هذا الشرف من نصيب معتقل فلسطيني من لبنان، نشأ وتربى على ثقافة البارودة والميليشيا والحرس الشخصي. وله كنية عجيبة: أبو عجقة. كان أبو عجقة تمثيلا ممتازا لكل المسؤولين الكبار والصغار في البلدان العربية. وكما أن المسؤولين يفرضون الضرائب على الكماليات، كان أبو عجقة يفرض الضرائب على دخول الحمام. فإذا كنت تريد دخول إلى الحمام مرة ثانية، أو أن تتجاوز دورك أو أن تبقى دقيقة إضافية في الداخل، ثمة إتاوة تدفعها فيتم لك ذلك. والإتاوة كانت سيجارة حمراء قصيرة. لا تضحك رجاء، فلم يكن تأمين ذلك بميسور على الكثير من السجناء، ولذلك كان الدخول استثنائيا إلى الحمام ترفا يتمتع به الشاويش ومساعدوه والمقتدرون على دفع الإتاوة وواحد أو اثنان من وجهاء المهجع. الآخرون كانوا يستطيعون ذلك فقط إذا أجادوا التذلل للشاويش أو لأبي عجقة. بعد ذلك بسنوات، حين نقلنا إلى سجن صيدنايا ولم يعد لرؤساء المهاجع أو أبي العجقات سلطة تذكر، حُشر أبو عجقة بيننا لبضعة عشر شهرا، وقد فقد هيبته وسطوته وزالت الهالة التي كانت تكلّل رأسه، وصار يتزلّف من أجل سيجارة، تماما مثل أي مسؤول في بلادنا يفقد منصبه ومكتبه وسياراته، فينزوي في زاوية للنسيان.

كان أبو عجقة تمثيلا ممتازا لكل المسؤولين الكبار والصغار في البلدان العربية. وكما أن المسؤولين يفرضون الضرائب على الكماليات، كان أبو عجقة يفرض الضرائب على دخول الحمام

شاويش المهجع 2 لم يكن بهذا السوء، كان لطيف المعشر، قوي البنية، تخشاه أول ما تراه، ثمّ سرعان ما تطمئنّ إليه وتأنس رفقته. ولم يكن في مهجعنا حمام، فكان حل المسألة مثله مثل المنفردات. يفتح السجان الباب ويتمتع الشاويش بميزة الوقوف عند باب الحمام المقابل للمهجع ويبدأ بالنداء: واحد إذا كان أحد المرحاضين شاغرا أو اثنان إذا كان الاثنان شاغرين. كانت فسحة الحمام فسحة من الحرية: الباب مفتوح على مصراعيه والسجناء يدخلون ويخرجون، يفرغون مثاناتهم ويعودون والماء البارد المنعش يقطر من وجوههم وأيديهم. لا فرق إذا كان الوقت صيفا أو شتاء، ففي المهجع كل الفصول صيف. مرة فتح الباب صباحا سجان كان وصل لتوه إلى الفرع، وكان على حذائه وفوق كتفيه آثار ندف الثلج. نحن في الداخل كنا بالسراويل القصيرة والغيارات الداخلية من شدة الحر.

كما أن كثافة البشر في المتر المربع الواحد لم تكن عالية كما سيكون الحال عندما ننتقل إلى المهجع رقم 4، حين كان ثمانين شخصا يسكنون أربعة وعشرين مترا مربعا. وذلك كان حسنا، إذ إن العدد وصل قبل ذلك بعام إلى مائة وستين.

التهم سجناء المهجع 2 الجرائد التي أحضرناها، منيف وأنا، من الزنزانة. مثلنا، قرؤوا كلّ حرف فيها، وحاولوا إعادة حل الكلمات المتقاطعة، وتلهّف بعضهم على صور بعض الممثلات التي كانت في الصفحات الفنية. ولكنهم فعلوا ذلك بقدر ما يستطيعون من السرية، لأن معظم المعتقلين كانوا من خلفيات إسلامية.

ويبدو أن قاطني المهجع 2 كانوا يتمتعون بدعم ما، ففي داخل المهجع أقيمت الصلاة وعقدت حلقات حفظ القرآن. ولأن الجرائد فقدت جدّتها، ولأن الأحاديث بين المعتقلين، تخفت بعد حين، وجد المعتقلون في حفظ القرآن تسريةً لهم. وكان نصيبي جزءا من سورة البقرة وبعض السور المتوسطة الطول كالواقعة والكهف.