الحروب وعجلة التاريخ

2022.05.17 | 06:44 دمشق

083b7606-1095-41d3-8f58-818b7ac0016e.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع بداية كل حرب تخوضها الدول الكبيرة، اقتصادياً وعسكرياً، يجري الحديث عن نهاية التأريخ أو أن تكون، تلك الحرب، الرصاصة الأخيرة في جيب التاريخ التي ستوقف عجلته، أي عجلة الحياة التي يسجل حركتها وأوجه تطورها التاريخ.

نظرة سريعة واقعية لمسيرة الحياة على هذا الكوكب المظلوم (بنا وبتاريخنا)، ومسيرة تطورها من عصور الكهوف والحياة البدائية، تخبرنا أن لا الحياة ولا مسيرة التاريخ قد بدأت بأمر جميل، من مثل اكتشاف العجلة أو البنسلين أو علم الجراحة، بل تخبرنا أن ما نطلق عليه التاريخ، كفاعل حركي، سياسي وتطوري، رسم مصير البشرية وأوجه تطورها المدني والحضاري، إنما قد بدأ بحرب، ولّدت حروباً، تتابعت، وعلى ما يبدو فإنها لا تريد أن تتوقف إلا بتوقف الإنسان (عن الحياة) أو نهايته بصورة نهائية.

يفترض، ومن الناحية الحضارية والمعرفية/ الثقافية، أن الحربين الكونيتين، اللتين جرتا على أرض القارة الأكثر تحضراً وتطوراً، معرفياً وعلمياً، أن لا تحدثا أبداً، ولكنهما حدثتا، وحدثت الحرب الكونية بالذات بعد اكتشاف البنسلين وغيره من المنجزات العلمية الكثيرة.

هل أذكر للقارئ عدد الحروب التي قامت بها دول العالم المتقدم بالذات، التي تلت نهاية الحرب الكونية الثانية، وصولاً إلى يومنا هذا من نهاية الربع الأول من الألفية الثالثة، والتي بدأت آخرها بحرب روسيا الاتحادية على جمهورية أوكرانيا، في الرابع والعشرين من شهر فبراير من عام 2022، أي والبشرية في قمة تطورها الحضاري والمعرفي والعلمي والتكنولوجي والثقافي؟

ما الدوافع لشن الولايات المتحدة الأميركية لحربين لاحتلال بلدين (أفغانستان والعراق) في مطلع الألفية الثالثة؟ هل كانت كلا الحربين حتميةً لمسيرة التاريخ ومتطلبات سيرورته، أم كانتا حربين لتناحر ومتطلبات صيرورة بين أيديولوجيتين، تحاول كل منهما إزاحة الأخرى وفرض فكرها ومسيرتها، كونه الأصح والأكثر تطوراً وتحضراً، وبالتالي كونها الأحق في قيادة عجلة التاريخ وحتمية مسيرته؟

الحقيقة لا هذا ولا ذاك، ببساطة لأن تلك الهجمات لم تصدر عن تخطيط دولة لها دور يكافئ الفعل التاريخي (السياسي) للولايات المتحدة، بل صدرت عن مجموعة هامشية لا قيمة لها، وعليه يمكننا أن نقول إن سبب احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق لم يزد في حجمه (في الحساب السياسي والأيديولوجي) على سبب اندلاع الحرب الكونية الأولى، وهو، في وزنه التاريخي، اغتيال ولي عهد النمسا.

حرب يجب أن تكون أيديولوجية:

الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو غزو بشع بكل المقاييس والصور، لم يفسره الغرب الأوروبي – الأميركي إلا في الإطار الأيديولوجي: دولة شرقية متخلفة حضارياً وثقافياً وأيديولوجياً (هكذا يرى الغرب روسيا) تغزو المدنية والتحضر والانفتاح الليبرالي واقتصاد السوق الغربي. فروسيا، وبعد ثلاثة عقود من انهيار الحكم الشيوعي، ما زالت في عيون الغرب دولة شيوعية مغلقة على أيديولوجيتها المعادية لليبرالية والانفتاح والديمقراطية وحقوق الإنسان الغربية. روسيا ورغم تمدد مساحتها على كامل مساحة قارة أوروبا من الأعلى، فالغرب لا يعتبرها أوروبية، وروسيا ورغم أنها مسيحية، فهي ليست من مسيحية الرؤية الغربية المتسامحة والمتمدنة والعصرية والمتحضرة، لأن مسيحية روسيا أرثوذوكسية متشددة ولها كنيستها المتمردة والمعادية للكنيسة الكاثوليكية، كنيسة الغرب الأوروبي والأميركي.

بتفكك الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد المنظومة الشيوعية، كان من المفترض أن تتجاوز المنظومة الغربية نظرتها القديمة لروسيا كندّ وغازٍ أيديولوجي، لكن هذا لم يحصل وأصرّ الغرب على التعامل مع روسيا، شعباً ومنظومة سلطة، على أنهم شيوعيون بالفطرة أو أن الشيوعية هي بمنزلة بلازما الدم للإنسان الروسي، رغم أن كارل ماركس، صاحب الفكر والأيديولوجية الشيوعية، كان ألمانياً استورد رؤيته وأيديولوجيته لينين ورفاقه، في قيادة الثورة الشيوعية التي حكمت روسيا – شيوعياً – من عام 1917 فقط. من هنا نخلص إلى أن نظرة التوجس وعدم الاطمئنان الغربية من روسيا إنما مردّها ديني – مذهبي هو العقيدة الأرثوذوكسية التي يتبعها غالبية الشعب الروسي لا أكثر.

إذاً ووفق هذه الرؤية، لا يمكن أن ترى المنظومة الغربية في الهجوم الروسي على أوكرانيا إلا من خلال مرجعيته الأيديولوجية – الدينية، قبل النظر إليه وحسابه عبر الحسابات السياسية والاستراتيجية العسكرية والأمنية.

نهاية التاريخ خارج رؤية فوكوياما:

ليس فوكوياما وحده الذي عدّ انهيار المنظومة الشيوعية انتصاراً للولايات المتحدة وللأيديولوجيا الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية، بل هذه كانت رؤية جميع رجال السياسية ومراكز الدراسات والبحوث والتحليل الأميركية. وانتصرت الولايات المتحدة لتتحول إلى قطب أوحد يتحكم في مصير العالم، ولكنها بدل أن تتحول إلى إشاعة السلام وإحلال الديمقراطية في العالم، كما افترض فوكوياما، فإنها استغلت أول حدث عدواني عابر تعرضت له، (اعتداء 11 سبتمبر 2001) لتخوض واحدة من أبشع حروبها الأيديولوجية – الدينية ضد الشعب الأفغاني، ولتلحقها بحرب صليبية (كما دعاها رئيسها حينئذ، جورج دبليو بوش) ضد العراق. وكلا الحربين الوحشيتين لم تثمرا لا سلاماً ولا ديمقراطية، بل تفليس بلدين وإخراج لشعبين من مسيرة التاريخ الحضاري للبشرية.

إذاً نهاية التاريخ أو العيش في مرحلة ما بعد التاريخ، التي تلت مرحلة انهيار القطب الشرقي (الاتحاد السوفييتي)، بكل امتيازاتها الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الإنسان والديمقراطية، لم تعشها سوى المنظومة الغربية، أما باقي العالم، وخاصة دول العالم الثالث، فعاشت في ظل الحروب العسكرية والاقتصادية والتدخلات وإملاءات المواقف السياسية.

لقد انصبّ جهد دول الغرب، خلال العقود التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، على أن لا يصل حاكم في العالم إلى السلطة وتكون له رؤية فكرية وسياسية غير الرؤية الأميركية، (الرأسمالية كنظام اقتصادي، والليبرالية الديمقراطية، كنظام أيديولوجي – سياسي)، رغم أن تجربتي الولايات المتحدة في فرض هذه الرؤية على أفغانستان والعراق، قد باءت بالفشل، ولم تكن حصيلتها الواقعية غير خسارة هذين البلدين وخروجهما من عجلة التاريخ وعلى كل الصعد.

من نافلة القول أن نذكر هنا أن حصيلة انهيار الاتحاد السوفييتي، كقوة ردع سياسي، لم تكن نتيجتها الأميركية، كما رسمت تنظيرات فوكوياما أو هنغتون، بل انحصرت نتائجها بالصلف وتغوّل القوة الأميركي والمزيد من حروبها المجانية، وقبل هذا تعطيل دور دول العالم في إنتاج رؤاها الأيديولوجية والسياسية، بل وحتى الفكرية والثقافية المستقلة، وخاصة على صعيد صناعة القرار السياسي المستقل، وهذا ما تنبهت له دول الخليج العربية مؤخراً، وهي الدول الحليفة التقليدية للولايات المتحدة، منذ خمسينيات القرن الماضي، بتجاهل الولايات المتحدة لمصالحها الأمنية والسياسية، في مسيرة عقدها للاتفاق النووي مع إيران، من دون أخذ تهديدات إيران السياسية والأيديولوجية والأمنية لهذه الدول بعين الاعتبار، بل وإمعانها في تجاهل مطالبات هذه الدول بأخذ تهديدات الأسلحة، غير النووية المتطورة، التي توفرت لإيران وميليشياتها الطائفية المسلحة بعين الاعتبار.

وفي التحليل السياسي، على الأقل، تبدو عملية حرب القيصر الروسي على أوكرانيا بمنزلة الإطلاقة ما قبل الأخيرة في جيب الاستحقاق السياسي الدولي/التاريخي، أمام تغول وتنمر الولايات المتحدة وتفردها في رسم سياسة وصورة العالم الأيديولوجية، رغم أن هذا لا يسقط عن هذه الحرب عدوانيتها ووحشيتها وقسوة نتائجها الكارثية على الشعب الأوكراني طبعاً، والتي لا تقل بطشاً وعدوانية عن حرب بوتين على الشعب السوري واحتلاله لأرضه وهيمنته على مقدراته وثرواته، نصرة لبشار الأسد.

وفي سياق هذه السطور والمعيار التاريخي الذي تصدّت للكشف عنه، يعد تهديد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالسلاح النووي بمنزلة التهديد الدرس، ومفاده لقد وعينا درس وأهداف تفرّدك، أيها العالم الغربي، في رسم النهج الأيديولوجي والسياسي والأمني للعالم، وآن للوضع الدولي أن يعود إلى نصابه.