الحرب بصفتها منتجاً بشرياً

2022.09.15 | 07:20 دمشق

الحرب بصفتها منتجاً بشرياً
+A
حجم الخط
-A

لا يمكننا اعتبار الحرب منتجاً من منتجات الإنسان القديم، فقد عرف الإنسان القديم مستويات متدنية من الاقتتال حول مسائل متناهية الصغر، كطريدة هنا ونبع ماء هناك، ولم تعرف الشعوب القديمة تكوين الجيوش وبناء النظم والتراتبيات العسكرية، التي تقتضي بالضرورة الطاعة العمياء. لهذا يمكننا أن نتتبع تطور الحروب وفق تطور المجتمعات والأدوات المصاحبة لها، وكوننا اليوم نشهد ثورات نوعية في حركة التطور التي لم تعد مرهونة بتطور الاحتياجات الطبيعية، إنما مدفوعة بسعار لا يتوقف من التنافس الكارثي، الذي يحيل الشطر الأكبر من مقدرات الأمم لخدمة هذا التنافس، حيث تتربع الآلة الحربية المدمرة على سدة هذا التطور، في حجم الأذية المتأتية عنها، وذلك الكم المرعب من الإنفاق لابتكارها وخدمتها وتسويقها.

ويشهد العالم اليوم تغييرات جذرية، يمكن أن تفضي إلى عالم جديد بالمعنى الكلي للكلمة، الذي يشمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والسيكولوجي، وأنماط العلاقات الدولية والإقليمية، كل ذلك يعزى إلى تراكمات كمية، كما يعزى إلى عوامل منفردة كان لها ذلك التأثير الحاد والسريع على تلك المسارات، ربما يكون أولها انهيار منظومة الاتحاد السوفيتي التي خلقت فراغاً هائلاً سرعان ما تلقفته الولايات المتحدة الأميركية، لتكون القطب المنفرد في إدارة الأزمات وتخليقها والهيمنة على سيروراتها ونتائجها، ثانيها ثورة الاتصالات التي عززت من قدرة الجماهير المهمشة سابقاً على التواصل والمشاركة المباشرة في أحداث مهمة كان يكتفي بالسابق بالاطلاع عليها عبر المحطات أو الصحف وحسب، وصار بفضلها اليوم بناء الشبكات والقدرة على تحشيد الناس الغاضبين، وإخراج المحتجين من بيوتهم إلى الساحات العامة، أمراً مستطاعاً لمجموعة شبابية ناشطة.

اليوم نلمس قدرة واهتمام أناس عاديين "غير متخصصين" ربما لم يكونوا يعرفون عن أوكرانيا قبل عقود إلا بضع كلمات، واليوم نجدهم يتابعون ويبدون الرأي في تفاصيل المعارك

ثالثها ثورة المعلومات وتحول المعرفة، من كونها حرم كهنوتي تحتكره النخبة والسلطة، إلى مادة متاحة للجماهير الغفيرة كما يسميها "جلال أمين" في كتابه عصر الجماهير الغفيرة، رابعها التسارع الخاطف وغير المسبوق في ظهور وتطور الأدوات والتقنيات الحديثة، التي عززت من قدرة الفرد ومنحته فائضاً من المساحات الزمنية، التي تمكنه من الاهتمام بوقائع تتجاوز رغيف الخبز وفحم التدفئة، وليصبح الشأن العام من اهتماماته اليومية، بعد أن كان حكراً على نخبة بعينها، ونحن اليوم نلمس قدرة واهتمام أناس عاديين "غير متخصصين" ربما لم يكونوا يعرفون عن أوكرانيا قبل عقود إلا بضع كلمات، واليوم نجدهم يتابعون ويبدون الرأي في تفاصيل المعارك في الحرب الدائرة هناك، ويحفظون أسماء بلدات صغيرة لم نكن نعرف عنها شيئاً لولا تلك الحرب، كما يتلمسون تأثير هذه الحرب على بلادهم ومستقبل أيامهم.

خامسها ظهور الكريبتو "العملات الرقمية المشفرة" والتي خلقت وحركت اقتصادات موازية، يمكن أن تنافس الاقتصادات السائدة وتعيد تشكيلها على نحوٍ يملك ذمامه الأقوى، وهو اليوم بيد شباب مغامرين مسلحين بالخبرات الرقمية وهم متابعون دؤوبون خارجون عن السيطرة وعن أدوات التحكم التي فرضتها الدول القوية على حركة النقد والقدرة على العبث بقيمته.

سادسها ظهور جيل الفيروسات المهيمنة والتي تجلت بهيمنة الكوفيد 19 على الكوكب بأدق تفاصيله، ففرضت حظر تجول على مليارات البشر، وغيرت وما تزال إلى الآن تغير في الأسعار العالمية للمواد الأساسية، وتقنن إمكانات توفرها، الأمر الذي لم تظهر تداعياته الكارثية بعد، لكنها ربما تنذر باندلاع حروب من الصعب التكهن بتوقيت اندلاعها، والمدى الذي ستحرقه إن هي اندلعت.

سابعها الحرب الأوكرانية الروسية وما سيتبعها من تصعيد روسي متمثل بحجب الغاز الذي يدفئ شطراً كبيراً من القارة العجوز أوروبا ويشغل مصانعها، وليس واضحاً بعد إلام ستفضي هذه الحرب هل إلى اندحار روسي كما تنبئ الوقائع اليوم وما سيترتب عليه من خرائط جديدة لهذا العالم السائل، أم سنشهد جنوناً انتحارياً للدب الروسي يجر من خلاله العالم إلى حرب عالمية، ربما ستبدأ بالسلاح النووي على عكس الحرب العالمية الثانية التي انتهت بالسلاح النووي، ولا ندري إلى أين ستنتهي.

المقدمات التي تخيلناها سابقا تغيرت تغيراً دراماتيكياً وبسرعات غير مسبوقة، مما أحدث خللاً في الأنساق السائدة والمتخيلة، الأمر الذي سيفاجئنا يوماً ما بسيادة أنماط غير معروفة في تجاربنا البشرية السابقة

ويمكن الزعم أن الحرب اليوم تختلف اختلافاتٍ جوهرية عن الحروب القديمة، من حيث المحرضات والغايات والنتائج، الأمر الذي سيضع معظم تصوراتنا وأبحاثنا المستقبلية موضع الشك، فالحروب الجديدة التي نشهدها اليوم، يغلب عليها سمة الحروب الأهلية بدل الحروب بين الدول، لأن الحروب بين الدول باتت تخضع لاعتبارات دولية لم تعد تسمح باندلاع هكذا حروب، وما الحرب الروسية الأوكرانية إلا خرقاً لهذا الاعتبار، ولذلك نراها وكأنها تسير باتجاه حرب كونية، والجميع يمارس أشكالا متعددة من محاولات ضبط النفس، كي لا تقع هذه الكارثة، كذلك تعتمد هذه الحروب على تمويل خارجي بدل التمويل الداخلي، الذي كان معتمدا لدهور، وربما كنت الحروب الحديثة مفرطة بالوحشية واستهداف المدنيين بخلاف سابقتها، كما أنها مبنية بالمقام الأول على نموذج حرب العصابات وممارسة الإرهاب، بدل اقتتال الجيوش في أرض المعركة، كما أنها تتسم بمزيد من الفوضوية وتجاوز القوانين والأعراف الدولية، فالمقدمات التي تخيلناها سابقا تغيرت تغيراً دراماتيكياً وبسرعات غير مسبوقة، مما أحدث خللاً في الأنساق السائدة والمتخيلة، الأمر الذي سيفاجئنا يوماً ما بسيادة أنماط غير معروفة في تجاربنا البشرية السابقة.

في كتابه منبعا الأخلاق والدين يذكر الفيلسوف المتصوف الفرنسي "إذا كانت المنزع للتملك منزعاً فطرياً وأصيلاً في الإنسان، فإن الحرب نتيجة طبيعية أو ربما حتمية لهذا المنزع" وعلى هذا سنبقى كبشر نخطط للحروب ونخوضها ونمولها طوعاً أو كرهاً، ونحصد نتائجها الكارثية، وربما يرى فيها البعض آلية فوق طبيعية لخلق التوازنات اللازمة للاستمرار بعد أن عبث الإنسان طويلاً في هذه الأرض فلوثها.