الحراك الشعبي في العراق

2019.10.10 | 17:36 دمشق

مظاهرات العراق
+A
حجم الخط
-A

لم تكن الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في العديد من المدن والبلدات العراقية في بداية شهر تشرين الأول الجاري هي الأولى من نوعها في مرحلة ما بعد 2003، فلقد سبقتها احتجاجات مشابهة في الأعوام السابقة كان أبرزها احتجاجات مدينة البصرة في العام 2018 ، والتي تكررت أيضا في حزيران من العام 2019 ، ولكن ما يميّز الحراك الشعبي الراهن عما سبقه أمران اثنان، أولهما الشمولية والاتساع وعدم اقتصار المظاهرات في محافظة بعينها، وثانيهما حدّة العنف التي أبدتها السلطات العراقية حيال المتظاهرين، إذ لم تمض ساعات على سلمية التظاهر، حتى بدأت الأنباء تتوارد عن سقوط قتلى وجرحى، وما إن وصلت الاحتجاجات إلى يومها السادس حتى تجاوز عدد القتلى، وفقاً لمنظمات حقوقية، مئة قتيل، وبلغ عدد المصابين بجراح ( 4000 ) مصاباً سرعان ما بدأت الاتهامات المتبادلة – كما هو متوقع – بين الحكومة والمتظاهرين، حول الجهة التي تبادر بالعنف، في حين وجهت بعض الأطراف أصابع الاتهام إلى ما سمتهم بـ (مندسّين) يقومون بإطلاق الرصاص الحي، وعلى أية حال لن يكون سيناريو الاتهامات يختلف كثيراً عن مثيله في جميع البلدان التي شهدت ثورات شعبية، وواجهتها السلطات بالعنف المفرط.

ردّة فعل السلطة العراقية كانت سريعة، إذ سرعان ما استنفرت الرئاسات الثلاث (رئاسة الدولة والحكومة والبرلمان) في محاولة منها لاحتواء حراك المظاهرات، موازاة مع تأكيدها على مشروعية مطالب المتظاهرين، ووجوب العمل على تلبيتها، مستخدمة خطاباً يشوبه كثير من اللين والتماهي مع احتجاجات الشارع، إلى درجة توحي لأي متابع بأن الاحتجاجات إنما تستهدف طرفاً مجهولاً غيرهم.

ما هو جدير بالتوقف عنده قليلاً هو محاولة السلطة في العراق، إضافة للعديد من وسائل الإعلام، تسليط الضوء على جانب محدّد من الحراك الاحتجاجي، وهو الجانب الذي يشمل مجمل المطالب الحياتية للمواطنين، كتوفير فرص العمل وتأمين الخدمات ومعالجة الفساد الإداري وسرقات المال العام وانعدام  السكن المناسب لأكثر المواطنين ...إلخ، ولكن في الوقت ذاته ثمة تجاهلٌ تام لوجه آخر من تلك الاحتجاجات، وهو الوجه الذي تنطوي تحته المطالب السياسية للمتظاهرين، إذ أظهرت كثير من مشاهد التظاهر تنديد الحراك الشعبي بالنفوذ الإيراني ( بغداد حرة حرة، إيران تطلع بره)، كما ندّد المتظاهرون بدور الأحزاب الدينية ذات التبعية لإيران، ولم يخفِ المتظاهرون الدور الذي تقوم به ميليشيات تابعة لإيران بممارسة القمع والقتل والخطف بحق المتظاهرين، وهؤلاء من تطلق عليهم الجهات الحكومية صفة ( المندسّين) ولكنها لا تسمّيهم، علماً أنها تعرف هويتهم ومرجعياتهم بدقة.

ثمة مشكلة مركَّبة يواجهها الشعب العراقي، تتمثّل في البنية السياسية للدولة أولاً، ومن ثم سلوك السلطة التنفيذية الذي يحمل في كثير من الأحيان، السمات والمحدّدات لتلك البنية السياسية وأشكالها أيضاً.

منذ العام 2004 وحتى الوقت الراهن، فإن معظم الحكومات المتعاقبة في العراق كانت تخضع لسيطرة شبه تامة من القوى السياسية الدينية الشيعية

لقد لاقى الاحتلال الأميركي للعراق في نيسان 2003 ، ترحيباً لدى القسم الأكبر من شيعة العراق ( أحزاب وتيارات وجماعات) بدافع أن الاحتلال سيطيح بنظام صدام حسين، ويحرر العراقيين من حكم العبودية، وينقلهم إلى عالم الحرية والديمقراطية، بينما عارض أغلب العرب السنة مبدأ الاحتلال، وعدّوه عدواناً يهدف إلى الهيمنة على خيرات العراق، تحت حجج ودوافع مزعومة، كالتذرع بوجود مخزون كيمياوي، وقد ثبت فيما بعد، أن معظم التقارير التي قدّمتها المخابرات الأمريكية حول السلاح الكيمياوي غير صحيحة. مما جعل كثيرا منهم ينكفئ عن المشاركة في ما سمّي بالعملية السياسية آنذاك، الأمر الذي عدّه البعض على أنه انكفاء غير مبرر، قد أتاح للطرف الآخر استغلال الفراغ السني، والاستيلاء على الحراك السياسي كاملاً. بعد عملية الاحتلال عمد الحاكم الأمريكي ( بول بريمر) إلى حلّ كافة مؤسسات الدولة العراقية، بما في ذلك المؤسسة العسكرية، وقد تزامن ذلك مع إطلاق يد إيران كاملة في العراق، وإتاحة الفرصة للنفوذ الإيراني بالإمساك بجميع مرافق الدولة، من خلال أذرعها الدينية والسياسية والعسكرية.

ومنذ العام 2004 وحتى الوقت الراهن، فإن معظم الحكومات المتعاقبة في العراق كانت تخضع لسيطرة شبه تامة من القوى السياسية الدينية الشيعية التي غالباً ما يتم تطعيمها بألوان تبدو مباينة من حيث الشكل، إلّا أن تأثيرها على صياغة القرار يكاد يكون شبه معدوم.

وعلى الرغم من إنجاز دستور جديد للعراق في 15 من تشرين الأول 2005 ، تحيل معظم بنوده إلى تبني مفاهيم عصرية للدولة، إلّا أن الدستور كوثيقة محفوظة شيء، وممارسة السلطة شيء آخر، إذ إن نظام المحاصصة الطائفية كان هو الناظم الفعلي لتقاسم المناصب والقطاعات الحكومية، وبحكم موازين القوى الميدانية والسياسية في مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي، فإن واقع العراق – آنذاك – كان يشهد خضوعاً تاماً للمرجعيات الدينية الشيعية، والتي هي في الأصل، من يمسك ببوصلة الأحزاب الدينية الشيعية، ويمنحها مشروعيتها، وهذه المرجعيات الدينية بدورها محكومة بالمرجعية ( الأم) في إيران، وبناء عليه – والحال كذلك – فإن العراق، بهمومه ومواجعه الحياتية، واحتياجاته السياسية الحقيقية يبقى غائباً عن برامج تلك القوى والأحزاب الدينية، اللهمّ سوى بما يخدم مصلحة المرشد الأعلى.

إن إظهار موجة الاحتجاجات الشعبية في العراق على أنها لا تتجاوز المطالب الحياتية للمواطنين، لهو أمر لا يزعج كثيراً المرجعيات الدينية، ولا السلطات العراقية

إن إظهار موجة الاحتجاجات الشعبية في العراق على أنها لا تتجاوز المطالب الحياتية للمواطنين، لهو أمر لا يزعج كثيراً المرجعيات الدينية، ولا السلطات العراقية، ولا إيران، بل إن التفاعل مع هذه المطالب يمكن استثماره سياسياً على أنه نوع من تماهي السلطة مع مطالب الشعب، ولكن ما هو موجع لهذه الأطراف جميعها، هو الوجه الآخر من المظاهرات الذي لا يقف عند حدود أخطاء أو فشل السلطة التنفيذية في الإدارة، بل يمتد إلى التشكيك بالولاء الوطني للسلطة الحاكمة، وتبعيتها الكاملة لإيران، لذلك لا أحد من المسؤولين، ولا من وسائل الإعلام المقرّبة من السلطة، يتحدث عن مهاجمة المتظاهرين لمقرّات الأحزاب الدينية، ولا يتحدث عن نزول قوات الحشد الشعبي إلى الشوارع ومهاجمتها للمتظاهرين بعد أن عجزت قوات عادل عبدالمهدي عن إخماد المظاهرات، وكذلك لا أحد يتحدث عن عصائب النجباء وبدر وسرايا الخراساني التي اقتحمت المشافي للإجهاز على المصابين من المتظاهرين، وكذلك ليس ثمة إشارة إلى وجود قوى عسكرية في العراق أصبحت فوق القانون والدستور، بل إن سلطتها فاقت سلطات الحكومة العراقية، وهي مثيلة – إلى حد مطابق – بوجود حزب الله في لبنان.

إن تبلور درجة من الوعي الرافض للسياسات المنبثقة عن المرتكزات الطائفية أو الدينية بكافة أشكالها وانتماءاتها، لدى قطاعات شبابية واسعة في العراق، إنما جاء نتيجة تجربة مريرة ومعاناة قاسية واجهها العراقيون خلال تجاربهم مع حكومات متعاقبة، تتبدّل أسماؤها، بينما منهجها ثابت، أضف إلى ذلك أن تحلّل الشرائح الشبابية من أسْر الأحزاب الدينية والقومية التقليدية ذات الإيديولوجية المغلقة، يتيح لها أن تعبر عن تطلعات العراقيين إلى مشروع وطني موسوم ببصمة العراق واحتياجاته ورغبات جميع سكانه بعيداً عن أي انتماء ما دون وطني. إلّا أن هذه الإرهاصات من الوعي المتقدّم الباعث على التفاؤل، لا شكّ أنها تجد ذاتها أمام تحدّيات كبيرة، سواء داخلية أو إقليمية، ولئن لم يكن لديها القدرة الكافية على مجابهة حاسمة لتلك التحدّيات، فإنها قادرة – بكل تأكيد – على اجتراح مسار نضالي يليق بكرامة العراقيين .