الحج والثورة من إدلب إلى مكة

2019.08.13 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

"رسالتي لك يا الله؛ فقد تركت مدينتي هارباً إليك، ليست المرّة الأولى التي أهرب من نفسي إليك، لقد فعلت هذا كثيراً في لحظات الخوف والضعف والقهر، ولكن هذه المرّة مختلفة، فأنا آتٍ من مدينتي المقصوفة إلى بيتك المعمور، لأملأ جَعْبتي أماناً وقلبي حبّاً، تركت خلفي أهلاً وأصدقاء لست متأكداً أني سأعود وأجدهم، لكنني رغم ذلك أتيتك قاصداً، أطلب رحمتك فآتني من عطائك".

من أهوال الحرب إلى منبع السّلام، ومن حالة القلق إلى قمة الطمأنينة، من الخوف إلى السكينة، من تطاير الشظايا والحمم إلى تحليق الحمام في الحرم، من طائرات تقذف الصواريخ فوق رؤوس الأبرياء، إلى طائرات تقل الحجيج من كل أنحاء الدنيا إلى مكة المكرمة، يصعب قليلاً، أو – ربما- كثيراً احتمال الفارق بين المشهدين، فالمشاعر تختلط، واعتياد العيش بين الحرائق والرماد يجعل من الصعب تقبّل هذا الكم الهائل من السّلام فجأة! يصل الحجيج إلى هناك، ومنهم حجّاج إدلب وما حولها، يحملون في حقائبهم وطناً، ومسكاً من دم الشهداء آثاره في حوائجهم البسيطة، يقابلون الكعبة غير مصدقين للمشهد، فالسنوات التي مرّت بهم جعلت الأمل يتضاءل من رحلة كهذه، فالموت

قد لا يطلب الحاج السوريّ السلام النفسي فقط في حجه، فله مطالب شتى، وسلام كثير من السوريين تحقق لحظة استسلام للقدر، وصبر على مصيبة

هو الرحلة الوحيدة التي قد يفكر الناس بحدوثها، رحلة إلى الجنة؟! هذا ما يفعله الناس كل يوم في تلك البقاع السورية الطاهرة، يُقتلون لأجل كلمة حق، ووقفة حق، وغضبة حق، فكيف سيتسنى لهم تصديق اختلاف المشهد بهذه السرعة وهذه الكيفية.

قد لا يطلب الحاج السوريّ السلام النفسي فقط في حجه، فله مطالب شتى، وسلام كثير من السوريين تحقق لحظة استسلام للقدر، وصبر على مصيبة، إنهم يطلبون من الله أموراً كثيرة لأرضهم وديارهم، ففي قلب كل واحد منهم جرح نازف وصورة شهيد، وجرح نازف وظلّ معتقل، وجرح نازف ووجع فقد ورحيل وخسارات شتى لا تعوّض، إنهم يلملمون تلك الجراح ليضعوها بين يدي الله الحكم العدل، يسألون الله القصاص ممن ظلمهم، ويسألونه الصبر ليكملوا الطريق، وهل الحج إلا رسالة للأمة كي تتحد على هدف واحد وقضية واحدة، وهل هو إلا اجتماع للقلوب والأفئدة على صعيد واحد، وهل هو إلا هدم للطواغيت والأوثان وإعلان توحيد لله الواحد الأحد، إنهم ينهلون من منابع الخير ليزدادوا قوة وإيماناً، هناك في وادٍ غير ذي زرع، حيث أصبح قبلة للناس وأمناً، بعد تضحية وصبر وبذل، تُستقى رسائل الثبات كلما طافوا أو سعوا أو ارتووا من ماء زمزم، وأما رمي الجمرات فكل حصى يرمونها يتذكرون طغاة يتوجب زوالهم، ومع كل دعاء

سيكونون أكثر الحجيج لا مبالاة بخشونة العيش ومتاعبه في الحج، فقد عبروا متاعب أشد، من حصارات واعتقالات وشدائد وأهوال، جعلتهم يستسيغون مثل هذا التعب

تطير القلوب لكل الثابتين على مبادئهم، الحماة لقضيتهم، ولعلهم يعودون لديارهم ومشهد المساواة والتآخي محفور في القلوب، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، سيشهدون حالة من انتظام الصفوف فجأة للصلاة، وانضباط مئات الآلاف من البشر في وقت واحد لأداء صلاتهم جماعة، ستخفق قلوبهم شوقاً لاجتماع الصفوف أيضاً لأجل القضايا المحقة، سيتذكرون المظاهرات الحاشدة التي كانت تزدحم بالأحرار الرافضين للظلم، المطالبين بالحرية، ولعلهم سيكونون أكثر الحجيج لا مبالاة بخشونة العيش ومتاعبه في الحج، فقد عبروا متاعب أشد، من حصارات واعتقالات وشدائد وأهوال، جعلتهم يستسيغون مثل هذا التعب، سيذكرهم بياض لباس الإحرام ببياض الأكفان، غير أنها دائماً في أرضهم مشوبة بالحمرة، وكلما كبّروا سيتذكرون ذلك التكبير كل جمعة، وكل معركة، وكل هجمة، وكم كان يمدّهم بالقوة!

ربما ينظر الناس من أنحاء الدنيا إلى الحاج السوري نظرة شفقة ورحمة، أو نظرة فوقية أو نظرة كراهية أو نظرة حب وتعاطف ورحمة، وهم المرابطون الثائرون الغاضبون المهجّرون والمهاجرون، المنفيون في أصقاع الدنيا، المطرودون من بعض المدن والدول والبلدان، المنبوذون – من غير ذنب – في غيرها، لا بأس فليفعلوا، لكن الله الرحيم العدل الحكيم سيغمرهم رحمة وسكينة وقوة، ويقرّ أعينهم بحوله وقوته بكرامة وخلاص وفجر يطلع مثل عيد سعيد.