الحجر الصحي وتداعياته

2020.06.06 | 00:00 دمشق

7e9a2aa7-0339-4dc0-b507-fab7acfd9c05.jpeg
+A
حجم الخط
-A

كثيرةٌ هي التوقعات والتخرصات المستقبلية، التي تمطرنا كلَّ يومٍ، عن التداعيات الاجتماعية للحجر الصحي، الذي أرخى بظله الداكن على معظم مدن العالم.

في البدء لا يخفى عنا جميعاً، ذلك الأثر الكارثيّ، على اقتصادات الدول وعلى ملايين الأسر، التي تعيش يومها من عمل معيلها اليومي، الذي ينتمي بالأصل إلى شريحةٍ واسعةٍ من هذا العالم البائس، شريحةٍ تعيش أصلاً تحت خط الفقر، تلك الشريحة الأكثر تضرراً، والتي من الصعب التكهن إلى أي مدى يمكنها احتمال واقعٍ يتدهور كلَّ يوم، وبحسب تقرير البنك الدولي فإن هناك أكثر من 1.9 مليار شخص، أو 26.2 في المئة من سكان العالم يعيشون على أقل من 3.20 دولار للفرد في اليوم، كما أن هناك نحو 46 في المئة من سكان العالم يعيشون على أقل من 5.50 دولار للفرد في اليوم.

مع كل هذا الضرر الكبير، الذي أصاب شريحةً واسعةً من السواد الأعظم، إلَّا أن هناك ظلالاً لا يمكن إغفالها في مناخات الحجر، فبمجرد سريان الحجر الصحيّ، وما سُمي مجازاً بالتباعد الاجتماعي، ظهرت وبشكل احتفالي وعالي الشيوع، مسألة التقارب الاجتماعي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الذي مكَّن المحجورين من التفاعل عبره، من خلال الشبكات والبرمجيات التي حققت تواصلاً سائلاً، وتفاعلاً كثيفاً، ظهر هذا في البدء مع سيل النكات والطرائف، التي باتت تمطرنا بها هواتفنا من عشرات الأصدقاء، وأصدقاء الأصدقاء، والتي شكَّلت في أحد أوجهها هزيمةً للوباء والحجر في نفوسنا، من خلال ذلك الكمِّ المتواتر من السخرية، وهي شكلٌ من أشكال مواجهة الخطر والقلق، والتعالي عليهما بآن معاً.

في ضوء القدرة الهائلة، التي يمتلكها الإنسان ككائن متفلسف ومتكيف، والتي لا تظهر قدراته الاستثنائية في الغالب، إلا عند الحافة وعند حدود انغلاق الأفق، فقد شكَّل الحجر في وجهه الأول، فعل احتجابٍ واحتجاجٍ، على جائحة قد تذهب بالحياة، وفعلاً تضامنياً مع مليارات البشر، الذين تشاركوا بالحجر، وربَّما يكون فعل الحجر، هو أول فعلٍ بارزٍ، تتشارك فيه المليارات على سطح هذا الكوكب، حيث أظهرت الفضائيات، مدناً كبيرةً خاوية شوارعها من البشر.

إن فعل الحجر الصحي أو التباعد الاجتماعي، اكتسى بعداً تشاركياً، سرت روحه بين المحجورين عبر الحدود والقارات، وبات الجميع يرقب كلَّ ساعةٍ، مئات التحولات والآراء والتصريحات، التي جعلت من العالم وبشكل عمليّ، أصغر من قرية صغيرة، وبات تصريحٌ لوزيرٍ أسترالي، أو رئيسٍ لدولةٍ عظمى، أو بيانٍ لمنظمة الصحة العالمية، يشكل مساً مباشراً، وخطاباً موجهاً، لكل محجورٍ في أقصى بقعةٍ من هذه المعمورة، وبات انخفاض عدد الإصابات في إيطاليا أو إسبانيا، يبعث التفاؤل في نفوس المحجورين في العراق، أو تركيا أو النروج.

لقد كشف الحجر عن ممكناتٍ هائلةٍ كنا ندركها تصورياً، حول ما يمكن لشريحةٍ واسعةٍ، أن تنجزه عبر الشبكة العنكبوتية من الأعمال، والآن وقد أصبح الأمر ضرورةً ملحةً، وحاجةً لا مندوحة عنها، فقد استمرت مؤسساتٌ كثيرةٌ في تسيير أمورها، وخدمة زبائنها والقيام بإشرافها على الأعمال، عبر هذه الشبكة، ويمكن القول إنَّ ملايين المؤسسات عبر العالم، ستتمكن في المرحلة القادمة بشكلٍ عمليّ، من متابعة موظفيها لأعمالهم، عبر مكاتبهم المنزلية، وبحدود دنيا من الحضور الشخصي لمراكز العمل، الأمر الذي سينعكس على الزمن المهدور في المواصلات، واهتلاك المكاتب والأدوات في مراكز الشركات، والتخفيف إلى حدٍ كبيرٍ، من نفقات خدمة الموظفين داخل مقارِّ الشركات، علاوةً على التخفيف الكبير لمثالب الاحتكاك الوظيفي، وما ينتج عنه من توترات في كثيرٍ من الحالات.

من المؤشرات المهمة أننا ومنذ الأسبوع الأول لتفشي فيروس الكورونا، صرنا نهتم ونقرأ عن العالم ما بعد الكورونا، وكأن الأزمة بالرغم مما صاحبها من تهويل إعلاميٍّ عالميّ، إلّا أننا اعتبرناها حادثاً عابراً وبتنا نهتم بما سيليها.

لقد كشف الحجر الصحي الصارم، عن ذلك الكم الهائل من الأشياء التي يمكننا الاستغناء عنها، والتي لمسنا كيف يمكن للحياة أن تستمر بدونها، دون أيِّ خلل.

 يرى باسكال في السعادة التي تتأتى من الإنجازات اليومية مجرد سعادة زائفة، أما السعادة الحقيقية فتتأتى مما يصنع عظمة الإنسان، وهو إعمال التفكير. وهذا ما عبر عنه بقوله: "لقد وُجد الإنسان لمعرفة الكون، والنظر العقلي في جميع الأشياء، وأنَّ الإنسان وُجد من أجل أن يفكر؛ وهنا تكمن كلّ كرامته وقيمته، ويقتضي نظام التفكير أن يبدأ بنفسه"، بهذا المعنى يمكن النظر للحجر بصفته فرصة للتفكير والتأمل، ومراجعة الذات، وهذا ما توفره ساعات طويلة من الحجر بعيداً عن صخب المعاش اليومي.

من الأمور التي خففت من وطءِ هذا الوباء، أنه أتى كظاهرةٍ عالميةٍ لم تستثن أي بلد، فكان شأنه شأن أية مخاطر أو كوارث كونية، كظاهرة الاحتباس الحراري، أو اقتراب مذنب مدمر من كوكب الأرض، من منا أحس بخطرٍ مباشرٍ من اتساع ثقب الأوزون على سبيل المثال؟، أو من تهتك الغطاء الأخضر للكوكب عبر استنزاف الغابات، والواضح أنَّ الأزمة حين تكون عامةَ، يخف تأثيرها وهولها الفردي، وكأنما أحدنا يوشك أن يقول، أنا غير معنيٍّ بذاتي بهذا الخطر، إنَّه خطر يستهدف المجموع.

لكن رغم كل ما سبق هل سنعود لحياتنا كما كنا قبل الكورونا، إن تاريخ الحياة البشرية وزخم التجارب الإنسانية الحادة، ترجح أنَّ الإنسان بقدرته الهائلة على التكيف والنسيان، يستطيع العودة إلى نمط حياته السابق، مهما حملت ذاكرته من ندوب وعقابيل.

نحن كبشرٍ ومنذ القدم، محاطون بعشرات أسباب الفناء والدمار، بدءاً من وحوش الغابة، إلى السموم والجراثيم الطبيعية والمصنعة، إلى الزلازل والفيضانات، ومخاطر الأمراض التي لا تنتهي، إضافة للحروب المستمرة التي يشعلها الانسان، وتفشي الجريمة، إلّا أنَّ الإنسان يبقى، والحياة تستمر، ويبقى صراعنا الأكبر ليس مع الفيروسات القاتلة أو كوارث الطبيعة التي لا تنقضي، إنما مع ما يصنعه الإنسان من شرٍ لأخيه الإنسان.