الجيوبوليتكا الأميركية واحتمال المواجهة العالمية

2022.09.22 | 06:45 دمشق

الجيوبوليتكا الأميركية واحتمال المواجهة العالمية
+A
حجم الخط
-A

لم يكن خبرًا اعتياديًا لمحلل سياسي، بل قراءة لأشهر منظري ومخططي السياسات الاستراتيجية الأميركية والسياسة العالمية في العقود الماضية، كهنري كيسنجر، بأن يكتب عن قرع طبول الحرب العالمية الثالثة مبكرًا في العام 2013، وأنه "مصاب بالصمم من لا يسمعها". فيما لم يتأخر ألكسندر دوغين، أشهر منظري السياسة الروسية الجيوبوليتيكية الحديثة الطارئة على المشهد العالمي، بإجابته بتوقع حدوثها، وذلك بعد أن قصفت القوات الأميركية موقعًا سوريًا لقوات روسية في دير الزور في العام 2016 بعد اتفاق كيري-لافروف حينذاك، بررته الإدارة الأميركية لاحقًا بالخطأ، لتفادي الصراع المباشر الممكن بينهما.

وفي الأمس القريب أتت تصريحات كيسنجر، المتعلقة بالحدث الأوكراني، شديدة التحذير ومرفقة بضرورة الاستعجال بالتسوية الروسية الأوكرانية والإقرار بالوضع السياسي القائم تفاديًا لمواجهة عالمية قيد النشوب. تلك التي أثار مخاوفها دوغين بجزمه أن روسيا لن تنهزم في حرب أوكرانيا حتى وإن تم استخدام الأسلحة النووية! تصريحات ليست عبثية، بل تخرج من أشهر قارئي السياسات العالمية ومحلليها ومن خلفهم مراكز دراساتهم الاستراتيجية كمركز كاتخيون الروسي، أو مركزي الدراسات الاستراتيجية ومركز راند الأميركيين. تصريحات مثيرة للرعب، ولكنها غير مستغربة! فالسلم العالمي اليوم قيد التهديد المباشر. خاصة وأن الروسبوتينية مصرة على تنفيذ وتطبيق نظرياتها الجيوبوليتيكة بالقوة العسكرية للعودة للقطبية العالمية كسابق عهدها أيام السوفييت. فهل تسعى أميركا للتصعيد إزاءها أم لامتصاصها بطرقها الجيوبوليتيكة أيضًا؟

مبكرًا أوصت الخارجية الأميركية، في تقريرها السنوي عام 2014، على ضرورة مراقبة المشهد العالمي الذي يُنبئ بعودة الجيوبوليتيك الدولي لموقع التنفيذ كما كان قبيل الحرب العالمية الثانية

رغم أن علوم الجيوبوليتيك تم إيقاف تدريسها أكاديميًا في الجامعات العالمية لما سببته من نشوء حربيين عالميتين كبريين، إلا أن مراكز الدراسات الروسية ومثلها مراكز الدراسات الاستراتيجية الأميركية والعسكرية، تابعت دراساتها ووضع برامجها وخططها المرحلية والاستراتيجية تحت عنوان: الهيمنة والمواجهات العالمية الممكنة وسبل تفادي حدّتها المباشرة. فمبكرًا أوصت الخارجية الأميركية، في تقريرها السنوي عام 2014، على ضرورة مراقبة المشهد العالمي الذي يُنبئ بعودة الجيوبوليتيك الدولي لموقع التنفيذ كما كان قبيل الحرب العالمية الثانية، إذ رقب التقرير تمدد الصين العالمي اقتصاديًا وتقنيًا، والتوسع الإيراني في الشرق الأوسط في العراق وسوريا ولبنان وصولًا لليمن، والتحرك الروسي الجيوبوليتيكي من خلال ملفي سوريا والقرم الأوكرانية، والتي أتمتها فعليًا بالتحرك والامتداد العسكري المباشر في سوريا 2015، وأوكرانيا 2022، وما بينهما التحركات الجزئية في ليبيا وأرمينيا وفنزويلا، عدا عن تمددها الاقتصادي والسياسي الموازي في إفريقيا والخليج العربي..

السياسة الأميركية لليوم، تسعى لتجنب المواجهات المباشرة العسكرية، خاصة وأنها تدرك خطرها العالمي عسكريًا، وشدة حدتها اقتصاديًا وماليًا التي قد تؤدي لانهيار النظام العالمي بالجملة. النظام الذي حاولت لعقود مضت بقاء هيمنتها المنفردة عليه. فيما هي اليوم تواجه التمدد الجيوبوليتيكي العالمي الكلاسيكي الروسي والإيراني منه، والبعيد الأجل الصيني، بجملة من التحركات الدولية موضعية الأهداف وذات استراتيجية جيوبوليتيكية واسعة. في إن كان أول هذه الأهداف عدم السماح لروسيا بفرض سيطرتها الدولية في مواقع حلفائها، محيطها الحيوي، خاصة الأوروبيين، ومنع عودة روسيا لموقع القطبية العالمية، بعد فشل سياستها الفترة الماضية باستيعابها بالمعادلة الدولية من خلال الملف السوري. تلك التي ترجمها لقاء هيلسنكي عام 2018 بين ترامب، الرئيس الأميركي السابق، وبوتين حينذاك، حين اعترف الأول للثاني بأنه ندّ عالمي ضمن النظام ذاته. في حين عين الاستراتيجية الأميركية تبحر نحو الصين ومعادلات المياه والبحار البعيدة جيوبوليتيكيًا، تلك التي تعيد للذاكرة مفاعيل هتلر-ألمانيا بشراكته مع هيروهيتو-اليابان قبيل الحرب العالمية الثانية.

الجيوبوليتيكا الأميركية لم تتوقف عند لجم التمدد الروسي الحالي فقط، بل استعادة زمام المبادرة العالمية وفق خطوط متوازية تتمحور وفق ثلاث سياسات محددة الأغراض والنتائج. فإن كانت أولى أولياتها تفادي المواجهة العالمية المباشرة، إلا أن جماعها تشترك في منع وجود منافس عالمي لها على الساحة الدولية اليوم وفي المستقبل. تلك التي يمكن تحديدها بالنقاط التالية:

  • معادلات الجيوبوليتيك القريبة من خلال استيعاب أوروبا كاملة في الناتو، تلك التي فرضتها العمليات العسكرية الروسية المسماة بالجيوبوليتيك الكلاسيكي قريب الاحتكاك المباشر بريًا في أوكرانيا، ما دفع الدول الأوروبية للارتداد بالإجمال ناحية حلف الناتو، بما فيها الدول المشهود لها بالحياد العالمي لعقود سابقة كالسويد. هذا مع دفع بالتعزيزات العسكرية والمالية لأوكرانيا، والاشتراك في تنظيم العقوبات الاقتصادية على روسيا، والبحث عن بدائل اقتصادية للطاقة والغاز الروسي.
  • معادلات الجيوبوليتيك الإقليمية، معادلات المحيط الحيوي متوسط الأجل، عبر الخليج العربي لوقف التمدد الإيراني في الشرق الأوسط وكفاية دورها التخريبي فيه. حيث تشتبك ملفات النووي الإيراني مع ملفات تمددها في سوريا والعراق ولبنان. تلك التي تفرض على دول الخليج العمل على وقف التمدد الإيراني دون مواجهة مباشرة. مع تمتين تحالفاتها في مواقع نفوذها في الدول ذاتها. ما قد يعني تحريك الواقع العسكري في كل من العراق وسوريا ضد الوجود الإيراني، وربما قريبًا في لبنان. وهنا لا بد من الإشارة للرفض العراقي الواسع للنفوذ الإيراني فيها، والتي بلغت ذروتها التصعيد الأخير من قبل "الصدر"، هذا مع زيادة واضحة في حجم وطريقة الضربات العسكرية الجوية الإسرائيلية للمواقع الإيرانية في سوريا. في مقابل هذا زيادة تهديد إيران للخليج العربي كله.
  • معادلة الجيوبوليتيك المائي واستراتيجية التحالفات المائية البعيدة لمحاصرة التمدد الصيني الاقتصادي عبر تعزيز اتفاقاتها المائية طويلة المدى مع كل من أستراليا وكندا وبريطانيا واليابان، لتجاوز الاحتكاكات البرية المباشرة واستيعابها بالجيولوليتيكا المائية المفتوحة في حال مواجهة محتملة مع الصين. المواجهة التي درس احتمالاتها مركز راند الأميركي وأعدها للجيش الأميركي مسبقًا، حيث إنه أشار بوضوح إلى أن "التفكير الأميركي بشأن الحرب دائم التغير". في حين تتمحور المواجهة الحالية بالالتفاف المائي واسع المدى عالميًا، مع زيادة في شدة التنافس التقني خاصة على الشرائح الذكية التي تتحكم في توجيه الصواريخ الباليستية والأقمار الصناعية. تلك التي كانت العنوان الأبرز في دراسة راند تحت عنوان مالا يتخيله عقل: المواجهة الصينية الأميركية.

الرؤية الجيوبوليتيكية للأحداث العالمية هذه قد تُفسر بداية بالجمل القصيرة محدودة الموقع للتمدد المفترض إقليميًا ودوليًا، لكنها قابلة للتغير الزمني وتبدل التحالفات الدولية، وعقدتها الأكثر اشتداداً في أوروبا بعد سوريا. فأوروبا لليوم، ممثلة بفرنسا وألمانيا بشكل رئيسي، تلعب دور الوسيط العالمي في جميع الملفات الدولية سواء السورية، الإيرانية، الليبية، اليمنية وحتى في المسألة الصينية الأميركية حول تايوان وملفات الجيل الخامس تقنيًا. ما يفسر محاولتها الدؤوبة لتفادي التصعيد الجيوبوليتيكي الممكن دوليًا في قلبها.

ما هو غير متوقع هو الأكثر توقعًا للحدث العالمي، وجميع الحسابات الجيوبوليتيكية العامة تشير إلى متغيرات كبرى دوليًا

ثمة ما يمكن أن يصعد في المعادلات العالمية الجيوبوليتيكة إذا ما انتقلت الصين لغزو تايوان، ومؤشرها القوي في هذا ربح روسيا الحرب الأوكرانية، ما يعني الانتقال لخطوط مواجهة جيوبوليتيكية مفتوحة الآفاق عنوانها المقبل الهيمنة على العالم وفق مؤشرات الجيوبوليتيك المائي طويل المدى.

ما هو غير متوقع هو الأكثر توقعًا للحدث العالمي، وجميع الحسابات الجيوبوليتيكية العامة تشير إلى متغيرات كبرى دوليًا. فإن كانت قواعد الجيوبوليتيك ذاتها تقوم على محدودية العمل العسكري المرحلي والانتقال لأهداف سياسية أبعد دوليًا، فأوروبا ذاتها اليوم في مرمى الجيوبوليتيك الشائن والسلم العالمي برمته قيد التهديد. بينما ما زالت أميركيا والصين على امتداد واسع جيوبوليتيكًا عنوانه سيولة النزاع التقني والجيوبوليتيك المائي عبر المحيطات وتلك معادلات أخرى. فهل تبقى أميركيا على الارتدادات الاستيعابية أم تنتقل لمبادرات أكثر حدة وأوسع احتمالًا؟ سؤال العصر ومتغيراته الكبرى في القرن الواحد والعشرين وإجابته الأوضح: الجيوبوليتيك وما لا يتخيله عقل!