icon
التغطية الحية

الجيش في سوريا.. من زي العسكر إلى الحزب القائد للدولة

2021.02.21 | 05:18 دمشق

gettyimages-3209182.jpg
إسطنبول - إياد السمعو
+A
حجم الخط
-A

يتحدث كتاب الجيش والسياسة في سوريا (1918-2000) لكاتبه الدكتور بشير زين العابدين عن حقبة زمنية طويلة، مليئة بالأحداث والمتغيرات من عام 1918 حتى 2000 في دراسة نقدية، تشمل نشوء الجمهورية في ظل الانتداب، وعن الوحدة بين سوريا ومصر وتداعياتها، وعن سلسلة الانقلابات الشهيرة، ويحاول الكاتب أن يتتبّع جذور الأزمة بين مؤسستي الحكم المدني والعسكري، وعن كيفية نشوء المؤسسة العسكرية، من خلال اعتماده على وثائق الخارجية البريطانية والإدارة الأميركية في وزارة خارجيتيهما ومفوضيتيهما في دمشق، ومن مذكرات سياسيين وعسكريين مثل خالد العظم وأكرم الحوراني وميشيل عفلق وغيرهم.

هنالك وجهات نظر تنتقد الكاتب وتقول إنه كان مفرطاً في النفس الطائفي، لكن الكاتب نقل العديد من النصوص التي تؤكد أن جذور الخلل تعود للانتداب الفرنسيّ، الذي غذى روح العصيان والتمرد والكراهية في نفوس الطوائف وسعى لتشكيل جيش طائفي وعلى خطاه استمرَّ النظام، يقول الدكتور غماري طيبي في كتابه "الجندي والدولة والثورات العربية": إن النظام قام بهيكلة الجيش على شكل نواة ومحيط، فخصص نواة الجيش للقوات العاملة والضباط العلويين، أو الذين يضمن النظام ولاءهم. وإن آل الأسد حصلوا على جيش علوي قوي مغلّف بغشاء عربي سني هش وضعيف نسبياً.

إشكاليات التأسيس

إنَّ الخرائط هي التي تروي القصة الحقيقية، هكذا يقول المؤرخ الفرنسي الكبير فرناند بروديل، فالموقع الجغرافي الاستراتيجيّ لسوريا هو الذي صاغ سياسة الدول الأخرى اتجاهها وسَعَت العديد من الدول للهيمنة عليها تحت مظلة مشاريع عدة، وكان لها تأثير كبير في نشوء الجمهورية آنذاك.

وعلى الصعيدِ الجغرافي، بدأت الإشكالية منذ حكم العثمانيين لسوريا حيث كانوا يعتمدون نظام الولايات (ولاية حلب - ولاية دمشق) وأيضاً كان لوعد بلفور أثر كبير، والذي قلَّص المساحة الجغرافية لسوريا الكبرى وشكل تقليص المساحة مشكلة أيديولوجية إذ أصبحت مسألة إقناع الشعب بأن فلسطين أصبحت دولة أخرى أمراً صعباً جداً، فلم يستطيعوا تقبل فكرة كهذه.

وعلى الصعيد الاجتماعي، كانت الدولة العثمانية تفعّل نظام المِلل والذي يعطي الأقليات ميزة أن يحكموا نفسهم بنفسهم، وبعدها عمل الانتداب على التغيير الديمغرافي لبعض الولايات كحلب، ويذكر بشير زين العابدين أن عشرات الآلاف من المسيحيين الأرمن تم نقلهم إلى حلب. وبهذا أحدثت سلطة الانتداب شرخاً اجتماعياً معتمدة على ترسيخ الفروق الدّينية والعرقية والطائفية، وأصبحت الطوائف تسعى لحماية نفسها والمحافظة على خصوصيتها، وأصبح لديها حالة من الهلع، بعد تبني الحكم الفيصلي فكرة الدولة القوميّة التي ظنّوا أنّها ستقصيهم.

الصّراع المستمر بين المؤسسة العسكرية والمدنية

كانت ظروف الاستقلال متخبّطة آنذاك فكان هنالك صراعان بريطاني فرنسي، وفي خضم هذه الأحداث الكبرى كان هنالك حالة من التخبط والضياع بين الأحزاب السورية، كالحزب القومي الذي يتبنى مشروع سوريا الكبرى، وكحزب البعث المتبنّي لمشروع الوحدة، وبعد كثير من الأحداث كان من أشهرها معركة ميسلون ولدت الحكومة السورية تحت وطأة الاحتلال الفرنسي عام 1932 ونُصّب محمد علي العابد رئيساً لها، وفي حالة عدم الاستقرار هذه تنازل الانتداب عن لواء اسكندرون عام 1939 وحدثت كثير من الاحتجاجات على هذا القرار الظالم.

وضع المؤسسة العسكرية لم يكن أحسن حالاً، فقوات الشرق الخاصة التي تشكلت من قبل الانتداب كان العلويون يمثلون نسبة 46 في المائة والبقية من الأقليات كالشركس والأكراد وبعض ممن يسكنون في الأرياف من العرب ذوي البنية البدنية القوية، وكانت هذه النواة العمود الفقري للجيش السوري التي قامت بعدة انقلابات على الحكم المدني وفيما بينها للتنافس على حكم البلاد.

الانقلاب الأول والأهم في الشرق الأوسط كان بقيادة حسني الزعيم، يقول بشير زين العابدين: إنَّ هذا الانقلاب فتح الباب لتدخل الجيش في شؤون السياسة والحكم. وبعدها بدأ مسلسل الانقلابات الشهير، وحدثت انقلابات ساذجة كانقلاب الشيشكلي على حكومة الدواليبي التي استمرت يوماً واحداً فقط، وأكثر حكومة استمرت 6 أشهر آنذاك، في هذه الفترة التي شهدت أكثر من 8 انقلابات كانت هنالك علاقة متوترة بين الجيش ومؤسسات الحكم المدني وكان هنالك دعم وتدخلات خارجية لكثير من الأحزاب وحالة ضياع وعدم وجود مشروع أو رؤية واضحة، وحالة الجيش كانت تشهد الكثير من الانقسامات الأيديولوجية والطائفية.

بعد انقلاب حسني الزعيم أصبح هناك قناعة لدى الضباط العسكريين، أنهم مؤهلون ويستطيعون قيادة البلاد من دون غيرهم، وهكذا حادت المؤسسة العسكرية عن دورها الأساسي وأصبحت تطمح لحكم البلاد. وبهذا الانقلاب فتحت شهيّة الضباط للحكم، وعلى أثرها حدثت عدة انقلابات فيما بينهم وكانت المؤسسة العسكرية من تحكم وترسل الإنذارات للحكام المدنيين عند تخطيهم الخطوط الحمراء.

وبعد فشل الحكم العسكري والمدني أصبح لدى الشعب السوري حالة من اليأس لأنه جرب الحُكمين، فقامت الوحدة من خلال مبادرة عسكرية، ويقول زين العابدين: إن مفاوضات الوحدة لم تكن في حقيقتها أكثر من سباق بين الزعامة المدنية والقيادة العسكرية، يهدف كلا الطرفين من خلالها إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب على حساب الطرف الآخر، وكانت النتيجة هي خسارة الطّرفين. وانتقل الشعب السوري من ديكتاتورية عسكرية إلى دكتاتورية عسكرية أخرى لكن هذه المرة بنكهة الوحدة.

ما قبل الحزب ليس كما بعده

بعد انهيار الوحدة حدثت عدة انقلابات على الحكم المدني، وانقسامات بين المؤسسة العسكرية على أسس أيديولوجية وطائفية، زين العابدين قسّم ضباط الجيش إلى عدة فئات متناحرة فيما بينها وكان من أبرزها: مجموعة القوميين العرب ومجموعة الضباط البعثيين وفئة ضباط 28 سبتمبر وهم في الأصل حياديون وأخيراً الضباط الناصريون.

بعد نجاحِ انقلاب حزب البعث الذي كان من المفترض أن تؤدي هيمنته على مقاليد الأمور في سوريا خلال الفترة 1936-1970 إلى تحقيق نوع من الاستقرار النسبي وذلك بسبب إبعاده الأحزاب السياسية المعارضة، وتصفية الضباط غير البعثيين داخل الجيش، لكن الذي حدث كان على عكس ذلك تماماً، فقد وقع حزب البعث في دوامة انقسامات سياسية وعسكرية كانت أكثر ضراوة من الصراع الذي اندلع خلال الفترات السابقة، إذ أصبح لدى البعثيين موقف عداء من الجميع، وكانت مجموعات الحزب آنذاك مجموعات غير متجانسة، وحدثت خلافات من أبرزها الخلاف بين القيادة القطرية الممثلة بحافظ الأسد والقيادة القومية الممثلة بصلاح جديد.

يقول بشير زين العابدين: إنّ حزب البعث لم يكن يطرح نفسه في المعترك السّياسي بوصفه حزباً شعبياً يطمح للوصول إلى أغلبية أصوات الشعب، بل كان يعوّل على كسب أقلية فاعلة تتمكن من إحداث تغيير في واقع المجتمع. ولذلك فقد رأى ميشيل عفلق أنه لا بدّ أن تكون قيادة الحزب بيد أقلية، إذ لو أنَّ الأكثرية كانت قادرة على وعي المبادئ حق الوعي، ولو أنها كانت قادرة على تنظيم حقوقها حق التنظيم، ولو أنها كانت تسير من نفسها في طريق النضال الجديّ لتبديل الأوضاع، إذاً لما كانت المرحلة الانقلابية، وما كانت الأمة بحاجة إلى انقلاب في حياتها وأوضاعها للنهوض. (وعفلق كان متأثراً بأفكار لينين في مطلع حياته السياسية وفكرة الحزب الأقلية مضمونها خطير، إذ تقف موقف العداء من الأغلبية وظهرت هذه الآثار عند وصول الحزب للسلطة).

 سياسة البعث كانت تهدف إلى ترسيخ حكم الحزب الواحد وإلغاء جميع الأحزاب الوطنية التقليدية وتحقيق دمج كامل بين مؤسسات الحكم المدنيّ والعسكريّ. وهنا يشير المفكر عزمي بشارة في كتابه "الجيش والسياسة – إشكاليات نظرية ونماذج عربية"، إلى أنه بعد خلع الحكام الثياب العسكرية وتولي الحكم المدنيّ فإنَّ الأثر الأهم كان عند سيطرة الضباط على حزب البعث، ثم على السّلطة بشكل عام بعد معارك مفصليّة سمَت في داخل الجيش وفي داخل الحزب.

كان انقلاب حافظ الأسد على رفقائه البعثيين الأخير، فتوقفت سلسلة الانقلابات واستطاع الأسد فرض بعض التغييرات الأيديولوجية وغير سياسته تجاه الجيش، وبعدها استطاع تأسيس 23 مؤسسة أمنية مستقلة ليوازن بين الجيش والحكم المدني. وكانت مجريات الساحة الدولية لا تهدأ، وكان يوظف هذه المتناقضات ليعزّز حكمه الشمولي، واستطاع أن يحول الدولة إلى دولة ممثلة بالرئيس الذي كان يملك أكبر خمسة مناصب للدولة.

ويضيف عزمي بشارة، أنّ نظام الأسد نظام طغمة يقف على رأسه حاكم فرد، ديكتاتور، مطلق الصلاحيات عملياً، وتنصاع لأوامرِه مؤسسات الدولة كلها، رغم القيود الدستورية النظرية، وبعض التوازنات الداخلية التي لا بد أن يأخذها بعين الاعتبار عند اتخاذ القرار؛ ولكنه في النهاية قراره، أو قرار من ينتدبه بمنحه سلطة وصلاحيات.

فالقائد هو "سيد البلاد"، ومصدر السلطات، حتى انتقلنا من سيادة الدولة إلى سيادة الرئيس، في مرحلة تماهي الأمرين معاً، وتتألف الطغمة من المقربين والموالين له من الحزب وقادة أجهزة الأمن والجيش، ويتقاطع القرب والولاء في حالاتٍ كثيرة مع القرابة العائلية والانتماء العشائريّ الجهوي، وفي الحلقة الأوسع نجد رجال أعمال، وكبار بيروقراطيي الدولة والحزب، ومحاسيب مستفيدين (ومفيدين ربما!) من أصناف مختلفة.

وأخيراً كيفية تشكل الجيش السوري والتأثيرات التاريخيّة بتركيبته المجتمعية والطائفية والأحداث المفصلية التي نشأ في خضمها، أنتجت لنا ردة فعل مختلفة عن الجيوش العربية الأخرى عند قيام الثورة السورية عام 2011 وحددت ردة الفعل هذه ما آلت إليه الثورة السورية من معاناة إلى اليوم.